: آخر تحديث

صناعة الرأي العام بين الحقيقة والتلاعب والوعي الجماهيري

1
1
1

لم يعد الرأي العام مجرد انعكاس طبيعي لأحداث المجتمع، بل أصبح صناعة متقنة، آلة دقيقة توظف السياسة والإعلام وعلم النفس والاجتماع والثقافة لتشكيل المواقف الجماهيرية دون شعور الناس بذلك. في عالم تتقاطع فيه المصالح والأفكار، يتحول التحكم في عقول الناس إلى أداة قوة تعادل، وأحيانًا تفوق، السلطة التقليدية، إذ يحدد الرأي العام مسار القرارات ويعيد صياغة المفاهيم والمواقف.

الرأي العام بطبيعته ليس مجرد إجماع أو جمع آراء الأفراد، بل هو اتفاق نسبي بين قطاعات فاعلة حول قضية تمس مصالحهم أو قيمهم، وتتضافر فيه جهود قادة الرأي من سياسيين ودعاة وأكاديميين وشخصيات عامة لتبني الفكرة وتمثيلها، بينما تعمل وسائل الإعلام التقليدية والرقمية على نشر الرسائل وتكرارها والرد على الشبهات، بحيث يبدو الرأي وكأنه نابع من الجمهور نفسه. فالجماهير تحب أن تشعر بسيادتها في اتخاذ القرار، حتى وإن كان القرار معدًا لها مسبقًا.

صناعة الرأي العام قد تكون واعية ونافعة حين تقوم على كشف الحقائق وتوضيح المعلومات بشفافية، وتنبيه المجتمع إلى المخاطر وتصحيح المفاهيم المغلوطة، فتنتج رأيًا عامًا يرفع الوعي ويقوي الفعل الإيجابي. لكنها قد تتحول إلى تضليل مقصود حين تُستثمر الأكاذيب والشائعات وتُضخم الأحداث أو تُخفى، ويُصنع العدو، أو تُفخخ الخلافات، بهدف تمرير سياسات أو حماية مصالح السلطة، وهو السيناريو الأكثر شيوعًا في المجتمعات التي تشهد صراعاً على السيطرة الإعلامية والسياسية.

الرأي العام ظاهرة وقتية، ساخنة، قابلة للتشكل والتبريد، تتطلب متابعة مستمرة، فالجمهور قد ينسى أو ينصرف أو يتشتت انتباهه مع أحداث جديدة، وإن لم يُستثمر الرأي في اللحظة المناسبة، يتحول إلى غضب مكتوم أو طاقة ضائعة. وفي عصر الإعلام الرقمي، تضاعفت قوة الرأي العام، لكنها تضاعفت معها القدرة على التضليل، حيث ظهرت جيوش إلكترونية وشبكات مضللة وإشاعات متعمدة، بينما ظهر قادة رأي جدد قادرون على نشر الوعي بسرعة أكبر، فأصبح المواطن مطالبًا بتمييز الحقيقة من الدعاية، والواقعة من الشائعة، والحقيقة من اللعبة السياسية، لأن فقدان القدرة على التمييز يؤدي إلى مجتمع مشكك ومربك، يعاني انهيار الثقة العامة.

تتكون صناعة الرأي العام من خطوات متتابعة: تحديد القضية، تجهيز القادة والمؤثرين لتبني الفكرة، استخدام وسائل الإعلام كافة لنشرها وتداولها، الرد على الشبهات، إشراك نشطاء جدد، ثم تحويل الرأي إلى فعل عام يظهر في ضغط جماهيري أو تغييرات سياسية أو حراك اجتماعي، ليصبح الرأي العام قوة ملموسة قادرة على التأثير في الواقع. إن مسؤولية صناعة الرأي العام ليست حكراً على الحكومات أو الإعلاميين، بل تقع على الجميع، المثقف والناقد والمواطن، فالوعي النقدي هو خط الدفاع الأول ضد التضليل، والمجتمع الذي يعرف كيف يميّز بين الحقيقة والدعاية يصبح صعب السيطرة عليه، بينما المجتمع المستهلك لكل ما يُقدم له بلا تمحيص يظل تحت رحمة أي خطاب أو شائعة أو دعاية محكمة.

وكما يقال، لكل حدث روايتان: رواية الناس ورواية الحكومة، وبينهما تمتد مساحة حيوية تحتاج إلى التحليل العميق والتفكير النقدي والإعلام المسؤول. في هذه المساحة تُصنع العقول الحرة، ويصبح الرأي العام أداة بناء لا وسيلة للتلاعب، والوعي قوة لا تُنتهك. إنها الحصن الذي يحمي المجتمع من الانزلاق في فخ التضليل، ويمنحه القدرة على التمييز والاختيار، فتظل العقول صاحبة القرار، لا مجرد جمهور يُدار.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.