: آخر تحديث
من مجلس الأمن إلى البيت الأبيض:

الجزائر والسعودية على خط الطوارئ الاستراتيجي

0
0
0

شهدت الأيام الأخيرة حدثين متلازمين: التصويت الإيجابي للجزائر في مجلس الأمن على خطة ترامب لإحلال السلام في غزة، وزيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى البيت الأبيض. وعلى الرغم من اختلاف طبيعة الحدثين، فإن تزامنهما يتيح قراءة استراتيجية دقيقة للمشهد الإقليمي، ويشير بوضوح إلى أن الجزائر لم تتحرك عشوائيًا أو استجابة لضغوط آنية، بل وفق تقدير مدروس للتوازنات الدولية والإقليمية وأولوياتها الحيوية.
يأتي هذا التزامن كفرصة لتحليل أوسع للتنسيق الإقليمي بين الدول الكبرى، دون الانجرار إلى لغة التخوين أو التهوين، وفهم ديناميات السلطة والنفوذ في المنطقة ضمن سياق موضوعي واستراتيجي.

التصويت الجزائري بـ"نعم"، كممثل عربي وحيد في مجلس الأمن، لم يكن مجرد دعم لخطة أميركية صرفة، بل دعمًا لخطة وضعتها قوى عربية وإسلامية، وبرزت فيها السعودية كفاعل مركزي. هذه الخطوة أثارت ضجة إعلامية كبيرة وفهمًا خاطئًا لموقف الجزائر، إذ اعتبر البعض أن البلاد تخلت عن موقفها التاريخي تجاه فلسطين، بينما الواقع يكشف تصرفًا استراتيجيًا مدروسًا ومتوازنًا، يجمع بين الثوابت الوطنية والمصالح الإقليمية.

صحيح أن الجزائر لم تحضر حفل التوقيع في شرم الشيخ الشهر الماضي، ولم توافق رسميًا على محتوى خطة ترامب، لكنها قررت دعمها لأنها مدعومة من السعودية، الفاعل المركزي في دفع الخطة نحو مرحلة التنفيذ. يتجلى ذلك في ثناء ترامب على جهود محمد بن سلمان وشكره لمساعيه الحثيثة لإحلال السلام في الشرق الأوسط، إضافة إلى مشاركة الرئيس المصري وتقديمه "قلادة النيل" لترامب، تقديرًا لجهوده.
تمرير القرار في مجلس الأمن كان خطوة للحفاظ على ماء وجه المؤسسة الأممية وإضفاء "الشرعية" على الخطة الترامبية، لكنه في الوقت نفسه يعكس وعيًا استراتيجيًا عميقًا من الجزائر.

لكن أعود وأسأل: هل كان هناك تنسيق مسبق بين السعودية والجزائر؟

فقط تخيّلوا للحظة: لو أن الجزائر رفضت القرار أو امتنعت عن التصويت... كيف كان سيبدو المشهد العربي أمام العالم؟ كيف كان سينعكس ذلك على موقف السعودية خلال هذه الزيارة المحورية؟ وكيف كان سيُعرض هذا الشرخ إعلاميًا وسياسيًا؟ ربما يكون هناك اتفاق غير معلن بين الجزائر والسعودية لضمان ستر عورات الغد والتحرك برؤية استراتيجية مشتركة.

إن موافقة الجزائر على القرار الأممي ربما فتحت الباب أمام نظرة سعودية لتطبيق خطة السلام في غزة، حتى وإن كانت في ظاهرها غير إيجابية بالكامل، وتوضح أن المواقف العربية يمكن أن تكون متسقة واستراتيجية رغم الضغوط الإعلامية والسياسية.

زيارة محمد بن سلمان إلى واشنطن ليست مجرد حدث رسمي؛ إنها رسالة واضحة عن تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين واشنطن والرياض، ورفع مكانة السعودية كلاعب محوري في إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية. السعودية باتت الآن الفاعل الرئيسي في الشرق الأوسط، اقتصاديًا وسياسيًا وجيوستراتيجيًا، وقادرة على حماية مصالح العرب.

القوة الصاعدة التي يخشاها الجميع في الشرق الأوسط ليست إسرائيل، بل السعودية، إذا أحسنت توظيف مقوماتها، وأميركا ترامب فهمت هذا. وهذا ما يفسر القلق والاضطراب الإعلامي والسياسي في تل أبيب أثناء زيارة ولي العهد، إذ أدركت إسرائيل أن نتانياهو أصبح ورقة مستهلكة، وأن المرحلة المقبلة تتطلب تصورًا جديدًا من الولايات المتحدة.

أكدت السعودية مرارًا أنها لن تمضي في أي مسار للتطبيع قبل قيام دولة فلسطينية. ويشكّل هذا المبدأ جوهر شراكتها مع الولايات المتحدة. وإلى جانب ملف القضية الفلسطينية، يبرز أيضًا ملف وقف ميليشيات الإمارات في زعزعة استقرار السودان. ويبدو أن مستوى التنسيق الرفيع مع الإدارة الأميركية قد تحقق بالفعل، بما يمهّد لخطوات عملية على الأرض في المرحلة المقبلة.

نهاية "إسرائيل الابن المدلّل"

من خلال متابعة هذه الزيارة، يتضح أن "الشوكة" التي زرعتها القوى الغربية قبل 70 عامًا في قلب الشرق الأوسط، حان وقت قطفها أو إعادة صياغة دورها. إسرائيل، الابن "المدلّل" لأميركا والغرب، لم يأتِ إلا بالدمار والاستنزاف، ولم ينشر "زهور السلام" أو "الديمقراطية"، رغم محاولات البعض الاستفادة من مبادرة السلام العربية لعام 2002. بل تحوّلت إسرائيل إلى عبء ثقيل على ميزانيات الدول المساندة لها وعلى سمعتها أمام شعوبها والعالم.

كما أن الإمبراطوريات الإعلامية التي صنعت أكذوبة "الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" تحتضر وتتساقط أوراقها، وهو ما يفتح المجال أمام قراءة جديدة للعلاقات الاستراتيجية في المنطقة.

إذا ابتعدنا عن منطق التخوين والنظرة الانهزامية، يمكن طرح السؤال بوضوح: من العدو الأول والمباشر للعرب اليوم؟
الإجابة: إسرائيل. الدولة التي ضربت قطر في عقر دارها، وهي صديقتها، وتضم أكبر قاعدة أميركية لصالح واشنطن... هل يُوثق بها ألا تفعلها غدًا ضد السعودية أو غيرها؟ بالطبع لا.
لذا أيقنت المملكة أن استمرار السلوك الإسرائيلي "الإجرامي" سيعطل دورها كلاعب إقليمي فعال. فعلًا، واقع جديد يرتسم في الأفق، وما يساعد في رسمه بعد تضحيات أهل غزة، هو استيقاظ المجتمع الأميركي، المتدين قبل الليبرالي، على هذا "البعبع" الأجنبي (واسمه إسرائيل) الذي يهدد استقرار بلاده وقدراتها. لقد دقّت ساعة عودة الجني إلى القنينة.

من منا يطلب أكثر؟

فلماذا نزايد على الدول التي تختلف طرقها عن طرقنا؟ فلكل دولة أولوياتها وأمنها القومي. لكن المهم هنا أن المملكة، شعبًا وقيادة، تعمل لإقامة دولة فلسطينية وتحقيق السلام، والجزائر تدعم هذا الخيار بكل مسؤولية تاريخية.

التوافق والتناغم الاستراتيجي الجزائري–السعودي اليوم قد يكون مفتاحًا لخطوات مهمة على مستوى السلم والأمن في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ويمثل بداية مرحلة جديدة من العمل العربي المشترك على الأرض.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.