البداوة لا تقبل الاختزال في ثنائية يصنعها مزاج شعوبي أو رومانسي.
في الجدل الدائر حول «البداوة» في العالم العربي، لا تنشأ الإشكالية من نمط العيش نفسه، بل من الصورة الذهنية التي تُسقِطها الجماعات عليه. فبين من يراها في الخليج «مفخرة»، ومن يقابلهم — من الشعوبيين أو المتأثرين بخطاب شوفيني — باعتبارها «مذمّة»، ينصرف النقاش عن حقيقة البداوة إلى سياق مختلف تمامًا: صراع هويات، وتراكمات تاريخية، ورغبة في تسجيل نقاط رمزية لا تمتّ إلى قيمة الإنسان ولا إلى مسار الحضارة بصلة.
البداوة، في أصلها، ليست هوية سياسية ولا معيارًا للتفوّق، بل نمط عيش أملته بيئة قاسية فشكّلت منظومة قيم تتلاءم مع شروطها. وفي مقابل القيم التي نشأت في الحواضر بفعل الاستقرار والعمران والتجارة، ظهرت في الصحراء قيم أخرى مثل إغاثة الملهوف والوفاء والشجاعة والكرم. ولا يحمل أيّ من هذين النمطين قيمة أعلى من الآخر؛ فالأخلاق تنشأ من تفاعل الإنسان مع بيئته وخبراته، لا من وصف جغرافي للمكان الذي نشأ فيه.
القيم المنسوبة إلى البداوة ليست «قبلية» في جوهرها، بل هي قيم إنسانية ظهرت في البيئات الريفية والمدنية بصور متعددة. وما يُنتقد من عزلة أو محدودية في الإنتاج يرتبط بظروف بيئية لم تسمح بما أتاحته المدن من تراكم علمي وصناعي. ومع التحوّلات الكبرى في دول الخليج خلال العقود الأخيرة، أصبحت البداوة جزءًا من الذاكرة الثقافية أكثر من كونها نمطًا معاشًا، تمامًا كما تحتفظ مجتمعات كثيرة بإرث الريف دون أن يشكّل حاضرها.
وكما يختزل بعضهم البداوة في تهم من قبيل «التخلّف» أو «الغزو والنهب»، يبالغ آخرون في إسباغ صفات «النبل والكرم» أو «الشجاعة والكرامة» عليها، فيقع الطرفان في اختزال لا يعبّر عن حقيقة هذا النمط من العيش. فهذه الأحكام المتقابلة لا تشرح البداوة بقدر ما تكشف عن ميول نفسية أو سياقات سياسية لدى من يطلقونها. أمّا في منظور الدراسات الأنثروبولوجية، فالبداوة نمط عيش إنساني نشأ في البيئات القاحلة وشحيحة الموارد، حيث طوّرت المجتمعات أساليب مرنة للتكيّف مع الندرة، ممتدة من صحارى آسيا إلى أقاليم إفريقيا، بما يجعلها إحدى صيغ القدرة البشرية على المواءمة مع الطبيعة.
وتكشف التجربة التاريخية أن البدو الذين خرجوا من صحراء شبه الجزيرة وانتقلوا إلى الحواضر الكبرى في المشرق والمغرب لم يذوبوا ثقافيًا، بل حافظوا على حضورهم وتمسّكوا بما استطاعوا من ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وأثّروا في الشعوب التي دخلوا إليها بالرغم من تعاقب الاحتلالات وتبدّل القوى الحاكمة بعد سقوط خلافة العرب. وقد أصبح هذا الحضور جزءًا من نسيج الحضارة العربية، مما يدل على أن المنظومة القيمية التي حملوها لم تكن عائقًا أمام بناء الحضارة، بل كانت قابلة للاندماج والإسهام حين توافرت الموارد والظروف المناسبة.
إن النقاش الحقيقي لا ينبغي أن ينصرف إلى تقييم البداوة ذاتها، بل إلى فهم التحوّلات العميقة التي شهدتها مجتمعات الخليج خلال العقود الماضية. فقد انتقلت هذه المجتمعات من اقتصاد محدود الموارد إلى اقتصادات نفطية متشابكة مع العالم، ثم إلى مسار متنام من التنويع الاقتصادي والثقافي. ورغم هذا التحوّل الكبير، ما زال بعض الخطاب الإقليمي والغربي أسير ثنائية «بدوي/حضري»، مع أن الواقع تجاوزها منذ زمن. وكما توافرت لأجداد البدو الذين استقرّوا في الشام والعراق ومصر والأندلس موارد طبيعية مكّنتهم من الإسهام في بناء الحضارة، يتوافر اليوم للأحفاد في شبه الجزيرة العربية مورد رئيس هو النفط، قادر — ما دام حسن الإدارة مستمرًا — على دفع مشروع حضاري معاصر لا يقطع صلته بهويته العربية، بل يستند إليها وهو ينفتح على العالم.
وفق هذا المنظور، يصبح السؤال «هل البداوة فخر أم عار؟» سؤالًا في غير محلّه؛ فالبداوة صفحة من تاريخ العرب، لا تمنح الإنسان فضلًا على غيره ولا تنتقص من قدره. والقيمة الحقيقية تُصنع بما ينجزه الفرد اليوم في العلم والعمل وبناء الدولة الحديثة، لا بما عاشه أسلافه في ظروف مغايرة.


