لم تكن زيارة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز إلى واشنطن في نوفمبر 2025 محطة دبلوماسية عابرة، بل عملية إعادة تأسيس كاملة للتحالف السعودي-الأميركي الذي يمتد لأكثر من تسعة عقود. في هذه الزيارة، غُيّرت قواعد اللعبة: تحولت العلاقة من تحالف تقليدي قائم على «النفط مقابل الأمن» إلى شراكة استراتيجية شاملة، تُوظَّف فيها الرؤية السعودية الطموحة والثقل الاقتصادي المتعاظم لصناعة مستقبل أكثر استقراراً للمنطقة.
ثلاثة أيام كفيلة بتحويل العلاقة من «صفقة رئاسية شخصية» قابلة للإلغاء إلى «شراكة مؤسّسية» يصعب على أي إدارة أميركية مستقبلية التراجع عنها، لأنها أصبحت الآن متجذّرة في مصالح اقتصادية عميقة داخل الولايات المتحدة نفسها—في قطاعات تهم ولايات رئيسية وأعضاء الكونغرس.
أولاً: التريليون دولار … ليست «جزية» بل «تأمين استراتيجي»
أكثر الأرقام إثارة في هذه الزيارة كان إعلان ولي العهد رفع سقف الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة إلى تريليون دولار خلال أربع سنوات عبر صندوق الاستثمارات العامة .
من وصف هذا الرقم بأنه «ضريبة حماية» أو «جباية أميركية» يجهل طبيعة استراتيجية هذا الرهان الاقتصادي.
هذه التريليون ليست تحويلاً نقديًا بسيطًا لخزينة واشنطن، بل استراتيجية ذكية لتوطين المصالح السعودية داخل الاقتصاد الأميركي: عبر استهداف قطاعات حيوية مثل البنية التحتية، الذكاء الاصطناعي، الطاقة النظيفة والصناعات التقنية والمدنية.
هذا التوزّع القطاعي يخلق شبكة مصالح معقدة تمتد عبر ولايات متعددة، ما يجعل أي تراجع في العلاقة مكلفًا سياسياً واقتصادياً داخل الولايات المتحدة، ويمنح السعودية ما يمكن تسميته «ضمانة أمنية اقتصادية» غير مسبوقة.
أبرز ملامح هذه الاستثمارات:
على سبيل المثال، جزء من هذه الاستثمارات موجه نحو التعاون في الطاقة النووية المدنية، عبر إطار شراكة يضمن التزامات صارمة بمعايير عدم الانتشار النووي.
كما تعكس هذه الحزمة تحوّلًا في موقع المملكة من "مصدّر نفط" إلى شريك استثماري في بناء القدرات التكنولوجية الأميركية.
من الناحية التشريعية الأميركية، هذا الاستثمار الضخم يخلق ضغطًا غير مباشر على أعضاء الكونغرس. فحين ترتبط مصالح اقتصادية سعودية بمناطق انتخابية أميركية (وظائف، مشاريع، شركات)، يصبح التصويت لصالح معاهدة دفاعية أو التزام طويل الأمد ليس مسألة مبدأ فقط، بل مصلحة ناخبيهم.
ثانياً: المعادلة الأمنية – من «المظلة الواقية» إلى «الردع الذاتي»
الجانب الدفاعي كان من أكثر الملفات إثارة للجدل في الزيارة – وقد جاء بنتائج استراتيجية.
1. مقاتلات F-35: أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب الموافقة على بيع 48 طائرة من طراز F-35A للسعودية ضمن حزمة أسلحة ضخمة، بحسب وسائل إعلام متعددة.
2. هذه الطائرات الحديثة تمثّل قفزة نوعية: بها قدرات شبحية وأنظمة استشعار متقدمة تمنح التفوق المعلوماتي(Information Dominance)، ما يسمح للمملكة ليس فقط بالدفاع عن نفسها، وإنما بفرض تكلفة على خصوم محتملين.
3. اتفاقية دفاع استراتيجية وتصنيف جديد: إلى جانب الصفقة الجوية، تم توقيع «اتفاق استراتيجية دفاعية» بين البلدين، وإعلان منح السعودية وضع "حليف رئيسي من خارج الناتو" (Major Non-NATO Ally). هذا التصنيف يسهّل نقل التكنولوجيا العسكرية، ويمنح السعودية بعض الامتيازات في التعاون الأمني واللوجستي، دون أن يتضمن التزام دفاعي رسمي كما لو كان حليفًا في الناتو.
هذا التحول يعكس رغبة سعودية واضحة في بناء قدرة ذاتية على الردع. لم تعد المملكة تعتمد فقط على مظلة أمنية أميركية، بل تسعى إلى تكوين توازن ردع يعتمد على قدراتها الخاصة المدعومة بتكنولوجيا متقدمة واستثمارات استراتيجية.
ثالثاً: المأسسة… الهدف الحقيقي وراء الزيارة
الهدف العميق من هذه الزيارة يتجاوز الصفقات الظاهرية: هو ضمان استقرار العلاقة على مستوى مؤسّساتي، وليس فقط على مستوى شخصي تنفيذي.
التاريخ يشهد أن ما يوقّعه رئيس أميركي بمرسوم تنفيذي يمكن نقضه من قبل رئيس آخر، كما حدث مع الاتفاق النووي الإيراني. لذا فإن الطلب السعودي هو الانتقال من «صفقة ترامب» إلى «معاهدة تشريعية» تتطلب موافقة الكونغرس.
السعودية لعبت أوراقها ببراعة: استثمار التريليون كضمانة اقتصادية وصفقة F-35 والأسلحة كضغط دفاعي وربط التطبيع المحتمل مع إسرائيل بمسار حل الدولتين ونزع سلاح حماس كورقة تشريعية قوية لكسب دعم بعض أعضاء الكونغرس.
بهذا الربط، تطرح الرياض القضية الفلسطينية ليس فقط كمطلب أخلاقي، وإنما كأداة تفاوض استراتيجية: شرط ملموس لكسب الضمانات الأمنية التي تسعى إليها.
رابعاً: التأثير الشعبي والتواصل الإعلامي
لم يكن التفاعل مع الزيارة مقتصرًا على القاعات المغلقة: فقد شهدت لقاءات ولي العهد وترامب، ومنتدى الأعمال السعودي-الأميركي، انتشارًا واسعًا عبر المنصات الرقمية ووسائل الإعلام، مع تقارير تفيد بأن بعض مقاطع الفيديو تجاوزت الملايين من المشاهدات داخل الولايات المتحدة وخارجها. هذا الحضور الإعلامي يعكس صورة قيادة شابة تنطق بلغة المشاريع والاقتصاد، لا مجرد الشعارات التقليدية.
خلاصة: نحو شراكة مصيرية تعيد رسم الشرق الأوسط
زيارة ولي العهد محمد بن سلمان إلى واشنطن في نوفمبر 2025 لم تكن مجرد نجاح دبلوماسي، بل إعلان ولادة لاعب جيوسياسي ناضج. القيادة السعودية استخدمت أدواتها – الاقتصادية، العسكرية، السياسية – ليس فقط للتفاعل مع النظام الدولي، بل لإعادة صياغة شروط انخراطها فيه.
النتيجة: المملكة، تحت قيادة محمد بن سلمان، تتجاوز دورها التاريخي كحليف تقليدي، لتصبح شريكًا مصيريًا يساهم في هندسة استقرار المنطقة، ويدخل في بناء النظام العالمي الجديد بثقة ورؤية مستقبلية.


