هل يكفي أن تغادر المرأة بلادها إلى فضاء المهجر كي تعلن انتصارها لذاتها؟ وهل مجرّد حصولها على بطاقة إقامة دائمة في بلدٍ لطالما ظلّ حكراً على فئات محددة، يكفي ليُعاد تعريف الحرية، وتُقلب موازين الأسرة رأساً على عقب؟ أسئلة تتردد في أذهان كثيرين وهم يشاهدون موجةً متصاعدة من الطلبات المتلاحقة للانفصال، تتذرّع بها بعض النساء، وكأنهن يبحثن في تلك البلاد البعيدة عن خلاصٍ شخصي، قد لا يكون في جوهره سوى هروبٍ من قيدٍ متخيّل، أو افتتانٍ ببريقٍ اجتماعي خادع.
لقد فتحت "بلاد النعيم" أبوابها على مصاريعها، لكنها، من حيث لا تدري، تجاوزت في نظر البعض حدود الأعراف التي تربّت عليها نساء مهاجرات جئن من بيئات مختلفة. تحت تأثير صديقات أو زميلات، وجدْن أنفسهن يخُضْن تجربة تحوّل جذرية؛ تجربة جعلت كثيرات منهن ينظرن إلى حياتهن السابقة نظرة ضيّقة، ويعدن قراءة دورهن في الأسرة بمنطقٍ جديد، لا يخلو من التمرّد أحياناً، ومن القطيعة مع ما كان يشكّل في الأمس جزءاً من لغتهن العاطفية والاجتماعية.
تغيّر الصوت الأنثوي هناك، فبعد أن كان يخرج بنبرة العتب أو المراجعة الهادئة، صار في بعض البيوت يعلو إلى حدّ الفرض والهيمنة، وكأن الأمر استعادةٌ لدورٍ مفقود أو انتقامٌ متأخر من تاريخٍ اجتماعي طويل. بعض الزوجات اتخذن موقع القيادة في البيت، وأخذن دور الرجل بطريقةٍ فجة، لا تشبه مطلقاً حركة تحرّر ناضجة، ولا تمتّ بصلة إلى الندية التي تقوم على الاحترام المتبادل، بل بدت وكأنها محاولة لاقتلاع الرجل من جذوره ورميه خارج حدود المشهد العائلي. وهكذا ارتفعت نسب الطلاق، وتكاثرت حالات الانفصال في ألمانيا والسويد والنمسا وغيرها، حتى صار المشهد أشبه بزلزال اجتماعي يضرب الأسرة السورية التي بُنيت يوماً على الحب والمشورة والاحترام.
ما حدث ليس مجرد خلافٍ عابر، بل شرخٌ واسعٌ في البنية النفسية والعاطفية للأسرة. فبينما ترى الزوجة أن الزوج يمارس "سلطةً قديمة" عليها، يتناسَى الجميع أن ما يدخل جيب الرجل في تلك البلاد من مساعدات معيشية بالكاد يكفي متطلبات بيتٍ صغير، فكيف له أن يتحكّم أو يستبدّ، وهو نفسه مكبّل بفواتير الكهرباء والغاز والإنترنت والتأمين والنقل العام، وغيرها من التكاليف التي تنهش دخله شهراً بعد شهر؟
غير أن هذا الواقع دفع بعض الزوجات، ولأسباب شتّى، إلى التقدّم للمحاكم بطلب الخلع، ظنّاً منهن أن الاستقلال المالي الممنوح لهن سيمنحهن حريةً غير مشروطة، وقدرة على إدارة حياتهن بعيداً عن أي مسؤوليات أخرى. وبات الزوج، في مشاهد كثيرة، شاهداً عاجزاً على تقلّص دوره في بيته، إذ تتقاضى المرأة المعونات الشهرية المخصّصة للأسرة، ثم تمنح زوجها ما يشبه "الفتات"، في حين تُظهر أمام العلن افتخاراً لا يخلو من التعالي.
في ظل هذا التفكك، أخذ بعض الرجال يتراجعون إلى الهوامش، تاركين همّ المتابعة الإدارية والمعيشية على عاتق الزوجة، التي سرعان ما تكتشف أن "الاستقلال الكامل" ليس نزهة، وأنه يحمل أعباءً لا تقلّ ثقلاً عمّا كانت تشتكي منه. ومع ذلك تستمر الدائرة في الاتساع، وكأن الجميع يركضون نحو مجهولٍ يزداد ضباباً يوماً بعد يوم.
إنَّ النظرة الدونية التي باتت تُوجَّه إلى الزوج في بعض الأسر المهاجرة، تُعدّ مقدّمة مباشرة لتفككٍ أكبر. فالأسرة التي كانت تقوم على ركنين متينين، تحوّلت إلى بناءٍ مهزوز، تتصدّع جدرانه بصمت، إلى أن يبلغ الانهيار حدّاً لا يمكن بعده إصلاح شيء. والخطر الأكبر أن الرجل، بعد أن فقد دوره وكرامته في نظر كثيرين، لم يعُد يجد أمامه إلا الفرار، حفاظاً على ما تبقّى من ماء وجهه، ولو أدى ذلك إلى ترك بيته وأطفاله خلفه.
هكذا يتحوّل المهجر من حلم بالاستقرار إلى ساحة اختبار قاسية، تكشف هشاشة العلاقات حين تُبنى على مصالح آنية أو تصوّرات مشوّشة عن الحرية. وتبقى الأسرة، وسط هذا العصف، الضحية الأولى لصراع أدوارٍ لم يكن ضرورياً، لولا أن البعض أصرّ على تحويله إلى معركة إثبات وجود، بدل أن يكون سبيلاً لتكاملٍ إنساني يُنقذ الجميع.


