لم يكن الخبر رواية تُنقل ولا قصة تُروى، كان وجهاً حيّاً يجلس أمامي في مخيم منسيّ على أطراف بورسودان، كنت هناك، بين الخيام التي تبكي قبل البشر، حين اقتربت فتاة مكسورة الخطوات، ممزقة الروح، تحمل على كتفيها وزناً لا يقوى عليه الرجال، جلست أمامي وقالت بصوت لا يشبه أصوات الأحياء: اسمي فاطمة… وقد اغتصبوني أفراد من المليشيات يرتدون ملابس قوات التدخل السريع، حين سمعت الجملة، شعرت أن الهواء انكسر، أن الخراب اشتعل من جديد، أن التاريخ أمسك رأسي بقوة وقال:
أنظر جيداً… هذا ليس وجعاً عادياً، هذا سقوط أمة!
يا أيها الزناة…
يا من فعلتم بها ما لا يفعله شيطان… إني أكتب إليكم وأنا شاهد لا ناقل، زائر لا سائح، رجل رأى الذهب السوداني الحقيقي: شرف النساء، وكيف نهشتموه بأسنان من قذارة، فاطمة لم تكن قصة، كانت بنت السودان،
كانت طفلة اللهفة والنجاة،
كانت صرخة خرجت من تحت الأنقاض لتفضح وجوهكم الذليلة.
في المخيم، حين رفعت عيني إليها، رأيت شيئاً لم أره في ثلاثة وثلاثين عاماً من تغطية الحروب:
رأيت العار يمشي على قدمين… لكن ليس عليها… عليكم أنتم.
رأيت خوفاً يشتعل حولها مثل سكين، وأماً تبكي خلفها بصمت لأن دموعها لم تعد قادرة على الطلوع، فاطمة حكَت لي كل شيء وهي لا تبكي… لأن البكاء أصبح ترفاً لا تملكه.
قالت لي: ربطوني… وضحكوا… ثم صار كل شيء أسود، والله، لم أجد كلمة في قواميس العالم تكفي لوصف تلك اللحظة، لم أرَ جريمة اغتصاب… رأيت انهياراً أخلاقياً، سقوطاً حيوانياً، فناءً للرجولة من جذورها.
يا أيها الزناة…
يا من دنستم الطهر بجهل ووحشية…
أي شيء كنتم تريدونه؟
أي قوة تُثبتون؟
أي رجولة تبحثون عنها؟
الرجال لا يغتصبون.
الرجال يُستشهدون ولا يهتكون امرأة، أنتم لستم رجالاً…
أنتم فيروس لعين، ينتشر حيث يغيب القانون، ويحيا فقط عندما تموت الإنسانية.
حين غادرتم فاطمة نصف ميتة، لم تتركوا خلفكم جسداً مكسوراً…
تركتم لعنة سوداء ستحاصر وجوهكم حتى آخر العمر، فاطمة لم تفقد شرفها لأنها عنوان الشرف، أنتم فقدتم إنسانيتكم وشرفكم، وأنا أكتب الآن، ما زال صوتها يحاصرني، صوت لم أسمع مثله في كل الجبهات التي غطيتها.
صوت يشبه قيامة.
صوت يقول:
أنا لم أمت… لكنهم قتلوا شيئاً في داخلي
يا أيها الزناة…
اسمعوها جيداً…
فاطمة ستقوم من تحت الرماد،
وسودانها سيقف خلفها،
وجيشها سيحمل ثأرها،
والعالم كله سيسمع اسمكم مقروناً بأبشع جريمة يمكن أن يرتكبها إنسان.
لن تُمحى جريمتكم.
لن يضيع أثر أيديكم.
لن يختفي صراخها من ذاكرة الأرض.
لقد جلست أمامي، كأنها تقيم عليّ الحجة:
يا عم… قول للعالم إنني لم أكن وحدي، إنهم فعلوها بغيري أيضاً
فها أنا أقول…
بغضب لا يهدأ…
وبقلم لا يرتجف…
وبلغة تحمل سيفاً لا قلماً:
لن تُغتفر هذه الجريمة.
لن تُدفن.
لن تُساوم.
ولن يمرّ يوم واحد دون أن تُذكر أسماؤكم في لائحة العار الأبدي.
فاطمة ليست امرأة من المخيم…
فاطمة قضية وطن،
وصوت شعب،
ومطرقة عدالة ستسقط فوق رؤوسكم مهما اختبأتم.
هذا حديث فاطمة…
حديث أخبرتني به وهي ترتجف بين خيام النزوح…
فاسمعوه جيداً يا أيها الزناة…
لأن الله لا ينسى.
والأرض لا تسكت.
والسودان… حين يغضب… لا يرحم.
هل أتاكم حديثُ فاطمة يا أيها الزُنَاة؟
مواضيع ذات صلة


