: آخر تحديث

هل القرن الحادي والعشرون سيكون آسيوياً؟

3
3
3

عبدالرحمن الحبيب

وُصِفَ القرن التاسع عشر بأنه قرن الإمبراطورية البريطانية، والقرن العشرين بأنه القرن الأمريكي، وكثيراً ما يُقال إن القرن الحادي والعشرين سيكون آسيوياً (صينياً) ولكن نادراً ما يُبحث ذلك بأدوات فاحصة، فهو ليس تبسيطياً فحسب بل أنه قد يكون ضاراً لأنه يُشجع على حدة التنافس والتوترات بين الولايات المتحدة والصين مما يُهدد أمن آسيا وازدهارها.. لا شك أن آسيا تلعب دوراً أكثر بروزاً في الجغرافيا السياسية العالمية، تماماً كما فعلت أوروبا سابقاً، وكما لا تزال أمريكا تفعل، إلا أن المستقبل أكثر تعقيداً من مبدأ المحصلة الصفرية بأن تُحدده قارة واحدة وفرضيتها القائلة بأن الصين من المرجح أن ترتقي إلى موقع هيمنةٍ ساحقة أو أن الولايات المتحدة ستتراجع إلى حدٍّ تفقد فيه نفوذها في آسيا.

هذا مختصر فحوى كتاب جديد بعنوان «أسطورة القرن الآسيوي»، يهدف إلى كشف الجوانب العديدة لعبارة «القرن الآسيوي» التي تُخفي التنوع الداخلي في المنطقة وتوازنات القوى المتغيرة، للدبلوماسي السنغافوري المخضرم بيلاهاري كاوسيكان الذي استناداً إلى خبرته الدبلوماسية الواسعة (37 عاماً) يُحذر من الثنائيات مناشداً المحللين بعدم الوقوع في فخ اعتبار الدول الآسيوية ملكًا لبكين أو واشنطن، سواءً للفوز أو الخسارة، فلهذه الدول تقليد دبلوماسي عريق في التحوط والموازنة والتماشي مع التيارات المختلفة وأحيانًا في وقت واحد.

يذكر كاوسيكان أن «معظم الدول الآسيوية حددت مصالحها منذ فترة طويلة في سياقات مختلفة، وأنها تشعر براحة تامة في الوقت نفسه، وهي تتحوط، وتوازن، وتواكب القوى الخارجية في مجالات مختلفة»؛ ولا ترى الحكومات الآسيوية أي تناقض في التجارة مع قوة خارجية عظمى، وفي الوقت نفسه مع قوة عظمى أخرى.

يرفض كاوسيكان الثنائيات شرق/ غرب التي يراها مُتبناة من قِبَل المفكرين المُتشبعين بالتقاليد الغربية في العلاقات الدولية؛ فعلى عكس أوروبا الغربية، التي تعاملت مع تحالفها مع الولايات المتحدة كـ»عكاز» حسب وصفه، فإن معظم الدول الآسيوية، بما في ذلك حلفاء المعاهدات، قد خضعت لتدريبٍ اجتماعي منذ تخلي أمريكا عن فيتنام الجنوبية للتعامل «مع الولايات المتحدة على أساس المصالح المشتركة أكثر من وهم القيم المشتركة».

وكذلك بالنسبة للصين، إذ يشير كاوسيكان إلى الصعوبات الديموغرافية والاقتصادية المألوفة التي تواجه الصين، فرغم تنامي نفوذها فهي في وضع جيوسياسي غير مواتٍ مع مجموعة واسعة من الدول من شرق آسيا إلى شبه القارة الهندية غير راغبة في إخضاع مصالحها لمصالح الصين. ويذكر المؤلف أنه صحيح أن الصين ستتمتع دائمًا بنفوذ كبير في آسيا، وخاصة جنوب شرق آسيا، بفضل حجمها وتواصلها الجغرافي وثقلها الاقتصادي ودورها المحوري في الاقتصاد العالمي، ولكن للمفارقة فلهذه الأسباب نفسها، ستثير الصين دائمًا مخاوف في آسيا، بل والعالم أجمع.

حول تلك المفارقة يوضح المؤلف أن ثمة مسألة تغيب عن بال المحللين عندما أدرك الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ (1978- 1992) هذه الحالة متبعاً نهج إخفاء قوة الصين واستغلال الوقت، فالدول الكبرى بحاجة إلى طمأنة الدول الصغيرة على حدودها، وبناءً عليه تصرف دينغ بهذا النهج، وفقاً لتحليل كاوسيكان الذي يستدرك بأنه مع نهاية عهد هو جين تاو (2003- 2013)، نُسيت حكمة دينغ أو تم تجاهلها، ربما لأن بكين بالغت في قراءة تداعيات الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وكما بالغت الولايات المتحدة في قراءة نهاية الحرب الباردة، استثمرت بكين هذه الأزمة في توسع عالمي باعتبار تلك الأزمة مؤشر لانهيار الغرب، وخاصة الولايات المتحدة.

يخبرنا كاوسيكان بأن مفهوم «آسيا» قد تحول وفقًا للأولويات الجيوسياسية، في كثير من الأحيان ليكون بمثابة «الآخر» بالنسبة للغرب، وصفة «آسيوي» تبسيط يخفي تعقيدات هذه القارة الشاسعة، ومن الأجدى التفكير في آسيا كخليط مُعقد من الدول المُنفردة أكثر من كونها كلًا مُتماسكًا داخليًا.

لقد حان الوقت لكشف زيف مقولة «القرن الآسيوي» حسبما يطرح كاوسيكان الذي يرى أنها اختصار لظهور جزء واحد فقط من آسيا، فلقد مرّ على اليابان عصرها، والهند «متأخرة جدًا وغير متماسكة داخليًا»، والدول الناجحة في جنوب شرق آسيا «صغيرة جدًا» بشكل فردي لتمثيل صعود قارة بأكملها؛ ففي معظم السرديات، يُشير «القرن الآسيوي» حاليًا إلى صعود الصين، كما يُشير «الغرب» إلى تراجع الولايات المتحدة، وفي ذلك تبسيط مبالغ فيه.

ومن هنا، يُعدّ مصطلح «القرن الآسيوي» تبسيطاً مفرطاً، غالباً ما تتبناه بكين وتُغذّيه لأشخاص «غير مُلِمّين بالتاريخ الآسيوي أو مُهتمّين بالشؤون الدولية»، بأنّ الصين ستقود القرن الحادي والعشرين، وفقاً لكاوسيكان الذي يُذكّرنا بأنّه في عصرنا المُتّسم بالتنافس الاستراتيجي، لا يزال الترابط مُهمّاً، فالصين والولايات المتحدة اقتصادان مُختلطان يسعيان إلى الهيمنة على النظام الحالي للتجارة الدولية والعلاقات بين الدول، لكنّ أيّاً منهما لا يسعى إلى قلبه رأساً على عقب؛ فهذا ليس نوعاً من الحرب الباردة الذي يُمكن فيه لقوةٍ واحدة «سحق» الأخرى دون الإضرار بنفسها، فكلتا الدولتين بحاجة لبعضهما البعض.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد