: آخر تحديث

المملكة العربية السعودية والدولة المتصلة: من إدارة التوازن إلى صناعة المركز

2
2
2

تقرير صحفي تحليلي متخصص في ضوء «الرؤية الديناميكية للتفاعلات الدولية»

1. 2025… عام التحول من «الدولة الصندوق الأسود» إلى «الدولة المتصلة»
في عام 2025 لم تعد المملكة العربية السعودية تُقرأ بوصفها دولة نفطية تقليدية تحافظ على استقرارها من وراء حدود صلبة ومؤسسات مغلقة، بل باتت تُقدَّم في تقارير المؤسسات الدولية ومراكز الأبحاث كنموذج صاعد لما تسميه «مدرسة الحوكمة الديناميكية» بـ «الدولة المتصلة» (The Connected State)؛ دولة تُقاس قوتها بقدرتها على إدارة التدفقات العالمية — من الطاقة والبيانات ورؤوس الأموال إلى النفوذ الدبلوماسي — لا بقدرتها على إغلاق حدودها أو إدارة مواردها بمعزل عن العالم.

الأرقام تعكس هذا التحول بوضوح: نمو الأنشطة غير النفطية في الربع الأول من 2025 بنحو 4.9%، انخفاض البطالة بين السعوديين إلى 6.3%، وارتفاع مشاركة المرأة في سوق العمل إلى أكثر من 36%، مع استمرار ارتفاع أصول صندوق الاستثمارات العامة إلى ما يناهز التريليون دولار تقريبًا. هذه المؤشرات ليست مجرد نجاح اقتصادي، بل دليل على أن الدولة أعادت هندسة نفسها لتتحول إلى عقدة مركزية (Central Node) في الشبكة العالمية، تربط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا في الطاقة واللوجستيات والبيانات والاستثمار.

في هذا السياق، لم تعد الرياض تؤدي وظيفة «مدير التوازن» في سوق النفط فقط، بل تتجه نحو دور «صانع المركز» في الاقتصاد الرقمي والجيوسياسة العالمية، مستفيدة من موقعها الجغرافي، وزنها الاقتصادي، والزخم الدبلوماسي الذي تراكم خلال السنوات الأخيرة.

2. الإطار الديناميكي الجديد: السيادة كـ«أداء» وليست كجدار
النقطة المفصلية في «الرؤية الديناميكية» أن السيادة لم تعد تُفهم كحق قانوني في العزل والحماية فحسب، بل كقدرة عملية على إدارة التدفقات (Flows Management). في النموذج القديم، كانت الدولة السعودية توصف كـ «صندوق أسود» مغلق يعتمد على النفط وحدوده الصلبة؛ أما في نموذج «السيادة الديناميكية» (Dynamic Sovereignty)، فإن الدولة تتحرك داخل الشبكات العالمية بمرونة عالية، تضبط الإيقاع بدل أن تنحصر في رد الفعل.

تتجلى هذه السيادة الديناميكية في ثلاثة مجالات رئيسة:

أولًا، الطاقة: عبر قيادة تحالف «أوبك+» وتحويل المملكة من مجرد منتِج إلى «صانع سوق» (Market Maker)، تستخدم مرونتها الإنتاجية وتسعيرها الذكي لتثبيت استقرار الأسواق العالمية وتحسين موقعها التفاوضي مع القوى الكبرى.

ثانيًا، التكنولوجيا والبيانات: من خلال فرض اشتراطات توطين البيانات وجذب كبار مزودي الحوسبة السحابية، وتحويل الأراضي السعودية إلى معبر رئيسي للكابلات البحرية ومراكز البيانات، بحيث تصبح البيانات ـ لا النفط فقط ـ أصلًا سياديًا يُدار وفق قواعد وطنية.

ثالثًا، الاستثمار السيادي: مع تمدد صندوق الاستثمارات العامة في أسواق التكنولوجيا والبنية التحتية والرياضة عالميًا، لم يعد الصندوق مجرد مستثمر مالي، بل تحول إلى فاعل استراتيجي يُعاد عبره رسم خرائط النفوذ الاقتصادي والتقني للمملكة في القارات الثلاث.

بهذا المعنى، تصبح السعودية مثالًا حيًا لدولة لم تعد تقاس بقوة «أسوارها»، بل بعمق حضورها في العقد المفصلية للشبكات العالمية: الموانئ، الممرات الاقتصادية، الكابلات، المراكز اللوجستية، وأسواق رأس المال.

3. الشرعية المزدوجة L/L′: من مشروعية الإنجاز إلى مناعة الدور الدولي
تقدّم «الرؤية الديناميكية للتفاعلات الدولية» مفهومًا مركزيًا لقراءة الحالة السعودية في 2025: «الشرعية المزدوجة» (Dual Legitimacy – L/L′)، التي تمزج بين الشرعية الداخلية والشرعية الخارجية ضمن معادلة واحدة لصناعة القوة المستدامة.

على المستوى الداخلي، ارتفعت الشرعية (L) مع تحوّل الرؤية إلى إنجاز ملموس في حياة الناس: وظائف جديدة، تحسن في مستوى الدخل، توسع في تملك المساكن، حضور أكبر للمرأة في الاقتصاد، وانفتاح ثقافي مضبوط بهوية وطنية ومرجعية قيمية واضحة. المواطن لم يعد يتعامل مع الرؤية كشعار إعلامي، بل كبرنامج يومي يؤثر في وظيفته وخدماته وفضائه العام.

وعلى المستوى الخارجي، تعززت الشرعية (L′) مع تحول المملكة إلى شريك لا يمكن تجاوزه في ملفات الطاقة والاستقرار الإقليمي والوساطة الدولية. من الحرب في السودان إلى الأزمة الأوكرانية، ومن أمن البحر الأحمر إلى استقرار أسواق النفط والغاز، تحضر السعودية باعتبارها وسيطًا موثوقًا وصاحب مصلحة في الاستقرار، لا مجرد طرف متفرج.

نتيجة ذلك، تشكلت حالة ما يمكن تسميته بـ «المناعة الاستراتيجية»: دولة راضية عن مشروعها من الداخل، ومقبولة كشريك من الخارج، ما يمنحها هامش حركة أوسع في الملفات الحساسة، ويحوّل كل خطوة داخلية ناجحة إلى رصيد قوة في الخارج، والعكس.

4. الدولة كمنصّة: من الجغرافيا المكانية إلى الوظيفة الشبكية
لم تعد الجغرافيا السعودية ميزة «مكانية» صامتة بين ثلاث قارات، بل تحولت إلى «وظيفة شبكية» (Network Function) يعاد عبرها هندسة التدفقات العالمية.

الموانئ السعودية، التي يجري تطويرها ضمن الاستراتيجية الوطنية للنقل والخدمات اللوجستية، لم تعد نقاط عبور للبضائع فقط، بل منصات لدمج الاقتصاد الوطني في سلاسل الإمداد العالمية، بحيث تصبح المملكة محطة لا غنى عنها لربط آسيا بأوروبا وأفريقيا.

إلى جانب ذلك، يرسّخ مشروع الممر الاقتصادي للهند–الشرق الأوسط–أوروبا (IMEC) هذا التحول، بوصفه رافعة إضافية لدور المملكة في تجارة الطاقة والسلع والبيانات، مع تكامل هذا الممر مع مبادرات أخرى في البحر الأحمر والخليج العربي. في الخلفية، تعمل الكابلات البحرية — مثل Blue-Raman وغيرها — على تحويل اليابسة السعودية إلى جسر رقمي عالمي، يمر عبره جزء متزايد من بيانات العالم.

في هذا المشهد، تصبح المملكة منصّة مركّبة:

منصّة للطاقة (النفط والغاز والهيدروجين الأخضر)،

ومنصّة للبيانات (الكابلات ومراكز البيانات)،

ومنصّة للّوجستيات (الموانئ والمطارات والسكك الحديدية)،

ومنصّة للمال والاستثمار (صندوق الاستثمارات العامة والأسواق المالية).

5. اقتصاد ما بعد النفط: من المورد الناضب إلى محفظة الأصول المتعددة
في التقارير الدولية الحديثة لم يعد يشار إلى السعودية بوصفها «اقتصادًا نفطيًا» بحتًا، بل كاقتصاد في طور التحول إلى «محفظة أصول متعددة» (Multi-Asset Economy)، يجمع بين النفط، التعدين، الصناعة المتقدمة، الاقتصاد الرقمي، والسياحة.

برامج الصناعة الوطنية، وتوطين سلاسل القيمة في السيارات والأدوية والدفاع، والاستراتيجية الوطنية للتعدين التي تستهدف ثروة معدنية تقدّر بتريليونات الدولارات، كلها عناصر تعيد بناء هيكل الناتج المحلي بعيدًا عن الاعتماد الأحادي على النفط.

في الوقت ذاته، يجري الاستثمار المكثّف في البنية التحتية الرقمية: مراكز بيانات بقدرات جيجاواطية، شراكات مع شركات عالمية في الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، واستثمارات في الشركات الناشئة ومنصات التقنية المحلية، ما يحوّل البيانات والخبرات التقنية إلى أصول سيادية جديدة.

أما على مستوى السياحة وجودة الحياة، فإن استهداف عشرات الملايين من الزوار سنويًا بحلول 2030، وتحويل مدن مثل الرياض وجدة والدرعية والعلا إلى وجهات ثقافية وسياحية عالمية، يُخرج الجغرافيا من كونها خلفية ثابتة إلى كونها رأسمال رمزي واقتصادي في آن واحد.

6. الدبلوماسية المركّبة: من «وساطة الأزمات» إلى هندسة النظام الدولي
على مستوى السياسة الخارجية، تطرح «الرؤية الديناميكية» مفهوم «الدبلوماسية المركّبة» (Composite Diplomacy) لفهم الدور السعودي المتصاعد في 2025. هذه الدبلوماسية لا تكتفي بمسار سياسي تقليدي، بل تدمج بين أدوات متعددة:

الدبلوماسية السياسية الكلاسيكية،

الدبلوماسية الاقتصادية والاستثمارية،

الدبلوماسية البيئية عبر مبادرات المناخ،

الدبلوماسية الروحية المرتبطة بخدمة الحرمين،

والدبلوماسية الرياضية والثقافية التي صنعت منصات جديدة للتواصل مع الشعوب.

بهذا المزيج، تنتقل المملكة من «إدارة الأزمات» إلى هندسة مساحات التفاهم داخل النظام الدولي؛ فهي وسيط في نزاعات، ومضيف لمفاوضات، وشريك في مبادرات اقتصادية عابرة للأطر، وفاعل في إعادة صياغة أجندة المناخ والطاقة، ومركز لاستضافة فعاليات كبرى تعيد تموضعها على الخريطة الإعلامية والرمزية للعالم.

هذه الدبلوماسية المركّبة تجعل السعودية طرفًا قادرًا على التحدث إلى واشنطن وبكين وموسكو وبروكسل في آن واحد، بلغة المصالح لا الاصطفاف، وبمنطق «الاستقلالية الاستراتيجية» لا التبعية لهذا المعسكر أو ذاك.

7. رأس المال البشري: الشرط الداخلي لفاعلية «الدولة المتصلة»
لا يمكن لدولة أن تتحول إلى عقدة مركزية في الشبكات العالمية دون أن تمتلك رأس مال بشريًا قادرًا على إدارة هذا التحول. لهذا، يظهر برنامج تنمية القدرات البشرية كعمود فقري داخلي لنموذج الدولة المتصلة: تحديث التعليم، إعادة توجيه الابتعاث نحو تخصصات المستقبل، وبناء كفاءات وطنية في مجالات الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، الطاقة النظيفة، والاقتصاد الرقمي.

ارتفاع مشاركة المرأة إلى أكثر من 36%، وتوسع مشاركة الشباب في القطاعات الجديدة، وتحسن مؤشرات جودة الحياة في المدن السعودية الكبرى، كلها عناصر تغذي «معامل الاتساق الداخلي» (ICC) وتقلل الاحتكاك بين المجتمع والتحول الاقتصادي، ما يضمن أن الانتقال من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي لا يُواجَه بصدمة اجتماعية، بل يُستقبل كشراكة وطنية عامة في صناعة المستقبل.

8. نحو 2030: من إدارة التوازن إلى صناعة المركز
مع اقتراب نهاية المرحلة الثانية من رؤية 2030 وبداية المرحلة الثالثة (2026–2030)، تتحول الأسئلة من: هل ستنجح الرؤية؟ إلى: أي نوع من الدول ستصبحه السعودية بعد 2030؟

الخط العام يبدو واضحًا في ضوء «الرؤية الديناميكية»: دولة متصلة، ذات فاعلية فائقة (Hyper-Effectiveness)، وشرعية مزدوجة، وسيادة ديناميكية قادرة على إدارة التدفقات بدل الاكتفاء بحمايتها.

الرهان الحقيقي في السنوات الخمس القادمة سيكون على قدرة المملكة على تحويل ما تراكم من مشروعات وبنى تحتية وتحولات اجتماعية إلى أثر مؤسسي مستدام:

مشاريع عملاقة تدخل طور التشغيل الكامل،

قطاع خاص يقود النمو بدعم لا باعتماد كامل على الدولة،

اقتصاد متنوع الأصول،

ودور دولي يوازي حجم هذه التحولات في خرائط القرار العالمي.

في هذه الصورة، لا تظهر السعودية كحالة استثنائية عابرة، بل كنموذج عربي–سعودي أصيل يعيد تعريف الدولة في القرن الحادي والعشرين:

دولة لم تعد تُقاس بما تحت أرضها فقط، بل بما تبنيه فوقها وما توزعه عبرها من طاقة وبيانات ومعرفة وفرص،

ودولة لم تعد تكتفي بإدارة توازنات الآخرين، بل بدأت بالفعل في صناعة المركز الذي تدور حوله شبكة جديدة من المصالح والتحالفات في عالم شديد السيولة والتحول.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.