: آخر تحديث
هنا ليبيا الثرية الغارقة في القمع وانكسار الصوت

"بابا والقذافي": رحلة سينمائية لاستعادة الأب والتاريخ

3
3
3

إيلاف من الدوحة: لا يبدأ فيلم "بابا والقذافي" بسؤالٍ سياسي مباشر حول كيفية اختفاء معارض ليبي بارز، بل يبدأ من الفجوة العاطفية التي خلّفها غياب أبٍ ترك أبناءه وزوجته معلّقين بين الحقيقة والانتظار. تهرب الابنة جيهان من السياسة لتلجأ إلى السينما، حيث تجد وسيلة لتثبيت صورة والدها كما بقيت في ذاكرتها: ثابتًا، حيًّا، لا يتغيّر. ومن هنا تبدأ رحلة طويلة تعيد فيها رسم الحكاية من جذورها: من الطفولة، إلى سنوات الدراسة، إلى لقاء والديها وزواجهما، فالاختفاء، ثم مرحلة البحث التي لم تتوقف. وبهذا المسار نرى، إلى جانب الحكاية الشخصية، قصة ليبيا نفسها؛ بلدٌ غني ماديًا، لكنه غارق منذ نصف قرن في القمع وانكسار الصوت.

يتحوّل الفيلم تدريجيًا إلى رحلة استعادةٍ لا لوالدٍ غائب فحسب، بل لوطنٍ صودرت ذاكرته وقُمِع تاريخه، ولفتاةٍ تحاول أن تُمسك بما تبقّى من خيط الحياة قبل أن ينقطع.

أكثر ما يدهش في الفيلم هو حضور الأم؛ قوتها، نقاؤها وصمودها. في المشاهد العائلية يبدو الطفلان سعيدين رغم فقدان الأب، وكأن الأم نجحت في حماية روحيهما من قسوة العالم. لم تكن حياتها سهلة: امرأة سورية حملت الغربة والخيانة والقهر، لكنها واصلت البحث عن زوجها دون أن تساوم، حتى حين وقفت أمام القذافي نفسه ونظرت في عينيه بجرأة لا يملكها كثيرون. كانت قادرة على أن تساوم النظام، أن تترك الأمر يغرق في الصمت مقابل بعض الأمان، لكنها لم تفعل. حضورها على الشاشة مليء بالقوة والعفوية والبساطة، وفي كل لحظة يقرّبك من الحقيقة أكثر مما تفعل أي وثيقة سياسية.

وإن بدت القصة شخصية للغاية، إلا أن السياسة تتسلل إلى كل تفصيلة فيها. فالأمر يتعلّق بمعارضٍ بارز انقلب على النظام، وفي كل خطوة تشعر بأن خلف الباب مفاجأة. صحيح أن نهايته كانت متوقّعة، لكن الطريقة التي اختفى بها، والسنوات التي قضى فيها جسده داخل ثلّاجة، تكشف عمق قذارة النظام، وحقيقة أن الإنسان في تلك المرحلة لم تكن له أي قيمة. والمفارقة السوداء أن مشهد الثلّاجة سيعود لاحقًا ليطارد النظام نفسه بعد سقوطه.

يتميّز الفيلم بتماسكٍ سردي نادر؛ انتقالٌ ذكي بين شهادات الأم والواقع من جهة، والفلاش باك من جهة أخرى. كل تفصيلة محسوبة، وكل انتقال مخدوم بإحساس سينمائي رفيع. ورغم أن المخرجة هي ابنة البطل، فإن الفيلم لا يعتمد فقط على صدق التجربة، بل على نضجٍ سينمائي واضح يجعل العمل يتجاوز كونه وثائقيًا شخصيًا ليصبح رواية بصرية مكتملة.

الموسيقى عنصر آخر بارز؛ الأغاني الأجنبية والمقاطع المختارة جاءت كبلسمٍ مقابل وحشية القصة، تمنح الفيلم تنفّسًا عاطفيًا وتوازنًا بين الألم والحنين، وتضيف طبقة حسّية تساعد المتلقي على تحمّل الحقيقة.

اختارت المخرجة أن تسرد الحكاية بصوتٍ عائلي دافئ، رغم قسوة الموضوع. الجميع يعرف أن النهاية مؤلمة، لكن السرد الحميمي جعل الطريق إليها أقل قسوة، وأكثر روحًا وجمالًا. بدت التجربة أقرب إلى عملٍ روائي حيّ، لا إلى وثائقي تلفزيوني تقليدي. إنها سينما تؤمن بأن الحكاية، مهما كانت موجعة، تستحق أن تُروى بجمال.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ترفيه