من الصعب، فيما أعتقد، أن نجد نموذجاً يجسّد انحدار فكرة العمل الخيري كما يجسده ما انكشف في فضيحة "وقف الأمة" التابع للإخوان المسلمين. ففي الحقيقة، لم تعد الأزمة أزمة مؤسسة جمعت المال ثم تبخّر، بل أزمة ثقافة سمحت—بسذاجة أو بعجز في مجتمعات الدول العربية —لأذرع الإخوان المسلمين أن تستغل الدين والعاطفة لجمع مئات الملايين التي لا تُعرف طرق صرفها ولا مآلاتها. وبلا شك، فإن التحول الأخطر ليس في حجم الأموال المفقودة فحسب، بل في أن هذه الأموال جمعت باسم الإغاثة لاهالي غزة بينما كانت تُستخدم في تمويل مشاريع إرهابية وحزبية وأنشطة أيديولوجية، وأحياناً أعمالاً مسلّحة لا تمتّ بصلة إلى اليتيم الذي ظهر في الإعلان، ولا إلى الفقير الذي ضُرب المثل به.
ولفهم الصورة بوضوح، لا بد من الإشارة إلى أنّ "وقف الأمة" لم تكن جمعية خيرية مستقلة، بل أحد الأذرع المالية غير الرسمية للإخوان، تمتد مكاتبها بين تركيا والأردن وبعض الدول الأوروبية التي تُرخّص للمنظمات تحت لافتة "NGO" دون رقابة كافية أو مساءلة فعلية. لقد استفادت هذه المؤسسة الاخوانية ومجموعة اللصوص والمرتزقة الذين عملوا لها من هذا الفراغ القانوني لتجميع مبالغ ضخمة قاربت نصف مليار دولار، جُمعت عبر حملات عاطفية مؤثرة تتحرك فيها مفردات الجهاد، والنصرة، وكسوة اليتامى، فيما كانت القنوات المالية الداخلية تعمل خارج أي نظام حوكمة معترف به.
وفيما يرى الكثيرون من المختصين أن العمل الخيري لم يكن يوماً بعيداً عن شبكات التمويل غير المشروعة، وأن تاريخ الجماعات المتطرفة حافل بتحويل التبرعات إلى تمويل مسلّح تحت غطاء ديني ناعم، وهذا ما يجعل فضيحة "وقف الأمة" ليست مجرد حالة فساد، بل نموذجاً مكرراً لطريقة اشتغل بها الإخوان المسلميمن لعقود، حيث تُستخدم المآسي الإنسانية لتمرير الأموال عبر شبكات لا تخضع لسلطة الدول، ولا لقيود التدقيق المالي، ولا لمسارات المحاسبة المعترف بها. ومن وجهة نظري، فإن المأساة ليست في السرقة فقط، بل في تحويل العمل الخيري ذاته إلى قناة تمويل سياسي وارهابي، ما يجعل المتبرع—بقصد أو دون قصد—طرفاً غير مباشر في دورات عنف لا يدرك حجمها.
في الحقيقة، لو كانت القوانين صارمة في البلدان التي احتضنت هذه الجمعيات لما تمكنت من جمع هذا القدر من المال. فالقوانين المتساهلة، والرقابة الضعيفة، والتراخيص المفتوحة، كلّها عوامل سمحت للإخوان المسلمين بإنشاء شبكة معقدة من المؤسسات التي تعمل تحت شعار الإنسانية، وتُستقبل في المؤتمرات الدولية بوصفها مؤسسات مجتمع مدني، بينما هي في العمق خزائن مالية تتحرك في اتجاهات لا علاقة لها بالإغاثة والتحصين الاجتماعي. ولو خضعت هذه التدفقات للمؤسسات الخيرية للرقابة الحكومية كما هو الحال في دولة الإمارات، لما تمكّنت جهة مثل "وقف الأمة" من الاستيلاء على هذا الكم من الأموال.
والحقيقة أن الإمارات تقدّم نموذجاً مضاداً ومختلفاً بالكامل؛ حيث تُخضع عمليات جمع التبرعات—داخلياً وخارجياً—لرقابة قانونية صارمة، وتمنع أي جهة غير معتمدة من ممارسة العمل الخيري، بل وتفرض على الجمعيات نظاماً دقيقاً للمحاسبة المالية يضمن ألا تتحول التبرعات إلى قنوات تمويل فوضوية. وهذا النموذج، فيما أعتقد، ليس تشدداً كما يراه البعض، بل ضرورة لحماية المجتمعات من أن تتحول نوايا الخير إلى أدوات في يد المتطرفين، فمن دون رقابة حكومية رادعة، يصبح المال الديني أخطر من السلاح نفسه، لأنه يدخل دون حراسة، ويتحرك دون أثر، ويصل إلى من لا يعرفه المتبرع ولا يعرف مقاصده الحقيقية.
ويبقى المحور الأخطر في هذه القصة هو المتبرع ذاته، فالمتبرع الذي يندفع بدافع عاطفي دون أن يسأل أو يبحث أو يتحقق، يتحول—دون أن يشعر—إلى شريك في صناعة فساد عابر للحدود. وإذا كان بعض هؤلاء يعتقد أن النية تغني عن السؤال، فإن التجارب تثبت أن النوايا، حين تغيب عنها البصيرة، قد تُغذي الإرهاب، وتدعم جماعات تتغذى على الدماء، وتدفئ خزائن حركات تعيش على المظلومية، بينما يعيش الفقراء الحقيقيون المستحقين للمساعدة على الهامش.
وما لا يدركه كثيرون أن جزءاً من هذه الأموال، وفق تقارير بحثية متعددة، صُرف على رفاهية قادة التنظيمات الارهابية، وعلى سفراتهم، وعلى فنادقهم، وعلى إعلامهم المُوجَّه، وعلى مشاريع استحواذ سياسي في المنطقة، لا على المحتاجين الذين جُمعت الأموال باسمهم. وهذا، بلا شك، يكشف عمق الخداع الذي يمارسه الخطاب الديني المتلاعب حين يبيع تعاطف الناس في الصباح ليموّل مشاريعه في الليل.
إن فضيحة "وقف الأمة" ليست نهاية سطر، بل بداية فصل. فصل يكشف أنّ التبرعات لما يسمى بالعمل الخيري إذا لم يُضبط بالقانون يتحول إلى أداة خطيرة في يد جماعات تعيش على خلق الأزمات واستثمار المآسي. وأنّ التبرعات، مهما كانت النوايا التي تقف خلفها، لا يمكن أن تُترك دون رقابة، وأنّ حماية الفقراء تبدأ من حماية أموالهم، وليس من توزيع شعارات إنسانية تذوب عند اللحظة الأولى للمحاسبة.
لقد آن الأوان، فيما أعتقد، لمراجعة شاملة للقوانين والأنظمة لتضع حداً لهذا النمط من "التديّن المالي"، وتعيد تعريف التبرعات والعمل الخيري باعتبارهما واجباً أخلاقياً لا مجال فيه للابتزاز ولا للتسييس، وإن استمرار ترك الملايين تتدفق بلا رقابة يعني ببساطة أن فضائح جديدة ستُولد، وأن من استغل الدين لتمويل الإرهاب سيجد دائماً من يمنحه المال، ما لم تستيقظ المجتمعات وتعيد بناء وعيها من الجذر لا من الأطراف، وان يتم حماية المجتمعات بتجريم الافراد الذين يقدمون تبرعات لجهات مشبوهة.

