كانَ المشهدُ في بدايتِه يبدو مجردَ نقاشاتٍ عابرة في فضاءِ السوشيال ميديا، لكنَّ ما كانَ يُخفيه هذا الفضاءُ أكبرُ بكثير من تغريدة أو تعليقٍ عابر، فالتفاعلُ اليومي، الذي يُفترضُ أن يكونَ مساحةَ تواصلٍ وتعبير، تحوّل تدريجياً إلى ميدان حربٍ ضروس تُخاضُ بلا جيوشٍ ولا مدافع، لكنَّها تُصيبُ المجتمعاتِ في عمقِها وتستهدفُ وحدتَها واستقرارَها، إنَّها حربٌ تعتمدُ على التَّضليل وعلى التَّلاعبِ بالوعي، وإعادةِ تشكيل الرأي العامّ عبرَ حساباتٍ مجهولة وهُويّةٍ مصطنعة تُظهرُ أنَّها جزءٌ من المجتمع، بينما هيَ في الحقيقة أدواتٌ خارجَه.
وخلالَ السَّنوات الأخيرة، كانَ كثيرٌ من الدول ومنها السّعودية هدفاً لحملاتٍ مكثفة من جهات خارجية تستغلُّ طبيعةَ المِنصَّاتِ الرَّقمية لتضخيمِ الانقسام، وإحداثِ تأثيرٍ نفسي قبل أن يكونَ سياسياً.
إحدى أهمّ الدراسات التي وثَّقت هذا النوعَ من العمليات كانت دراسة مبكرة أعدّتها «مؤسسة راند» الأميركية عام 2018، حول العملياتِ الدعائية الممنهجةِ عبرَ «تويتر» الذي أضحى «إكس».
هذه الدراسة حلّلت أكثرَ من 22 مليون تغريدة، وكشفت كيف تُدار حملاتُ التأثير من خارج الدولِ المستهدفة، باستخدامِ حساباتٍ ترتدي هُوياتٍ محلية بهدفِ تضليلِ الجمهور وإيهامِه بأنَّ مصدرَ الهجوم داخليٌّ وليس خارجياً. وخلصَتِ الدراسةُ إلى أنَّ هذه العملياتِ تستهدف خلقَ «ضباب معلوماتي» أي تشويش وتضليل، يفقد معه الجمهورُ القدرةَ على التَّمييز بين الروايةِ الحقيقيةِ والروايةِ المصطنعة.
وَفِي السّياق السّعودي تحديداً، ظهرتْ هذه الحربُ الرَّقميةُ بوضوحٍ مع انتشار حساباتٍ كانت تُتقنُ اللّهجةَ المحليَّةَ وتبدو أقربَ إلى أفرادٍ من المجتمع، قبل أن تكشفَها التقنياتُ الجديدةُ في منصة «إكس»، التي تستطيعُ تحديدَ موقعِ المغرد، ومع بدءِ تفعيل هذه الخاصيَّة، انكشفَ المستورُ وَقامت البيّنة وظهرالخداع والتَّضليل. واتَّضح أنَّ عدداً من الحسابات التي كانت تتصدَّر النقاشات، وتطرحُ قضايا حساسةً بحدَّةٍ مقصودة وبمبالغة كبيرة، لم تكنْ تنطلق من أي مدينةٍ سعوديةٍ كما كانت تدَّعي، بل من خارج الحدود تماماً، هذه اللحظةُ كانت أشبهَ بإزاحة السّتار عن مشهدٍ كامل ظلَّ يعمل في الظّل لسنوات.
الأغربُ أنَّ بعضَ هذه الحسابات كانت تنال بعضَ النَّجاح في إقناعِ المتابعين بأنَّها جزءٌ من «الرأي الشعبي»، وذلك باصطناع لغةٍ تتحدَّث بلسان المواطن، وتستخدم الأمثالَ الشعبيةَ والطرافةَ المحليةَ لإسباغ الطَّابَعِ المحليّ عليها، لتبدوَ كأنَّها تعبر عن نبض الشارع.
لكنَّ قراءةً منهجيةً مشابهةً لما عرضته الدراسةُ السابقة لـ«مؤسسة راند» تُظهر أنَّ هذا الأسلوبَ ليس عفويّاً، بل هو جزءٌ من تقنيات «التقمص الرقمي» التي تُستخدم لإضعافِ الانسجامِ الداخليّ داخل المجتمعات المستهدفة، عبرَ خلق انطباعٍ بوجودِ انقسامٍ واسع، أو عدمِ رضا شعبي، أو معارضةٍ داخلية، بينما يكونُ معظمُها هندسةً رقمية من جهاتٍ لها مصالحُ وأجنداتٌ في ضربِ ثقة المواطنِ بمجتمعِه ومؤسساته.
هذه الحربُ لا تعتمد فقط على نشرِ الإشاعات، بل على خلقِ بيئةٍ مشوَّشة، بحيث يصبحُ الوضوحُ نفسُه نادراً، في لحظةٍ معينة، ويغدو الهدفُ ليس إقناعَك برواية معينة، بل دفعكَ للتوقّف عن الثقة بأيّ رواية.
إنَّها، بكل تأكيد، حربٌ نفسية يطولُ أثرُها الثقةَ والهُويَّةَ والانتماء، وهي أخطرُ بكثير من أيّ مواجهةٍ مباشرة.
ورغمَ كلّ ذلك، أثبتَ كثيرٌ من المجتمعات ومنها المجتمعُ السعودي، تحديداً، القدرةَ اللافتةَ على فرز الحقيقيّ من المصطنع، وعلى إدراكِ أنَّ جزءاً كبيراً ممَّا كانَ يُطرح في الفضاءِ الرقمي لم يكنْ سوى موجاتٍ مصنّعة تهدف إلى إضعافِ التماسك وخلخلة النسيج الاجتماعي.
ومعَ ازديادِ وعي المجتمعاتِ، وتطوّرِ أدواتِ التَّحقق، باتت هذه الحملاتُ تواجه بيئةً أكثرَ صلابة وقدرة على كشفها وفضحِها، لكن هذه الحربَ الضروس لا يملُّ مشعلوها من محاولاتهم المتكرّرة اليائسة، وأساليبهم الدنيئة في إشعال الفتن وتأليب الناس، بعضهم على بعض في الفضاءِ الرقمي، إلَّا أنَّ خطَّ الدفاعِ الأول يظلُّ هو وعيَ الإنسان وتيقّظَه قبل أي تقنية مهما علا شأنُها.

