يبدو المشهد للوهلة الأولى نزاعاً بين «مركز» يخشى اتساع الفيدرالية وإقليم يراهن على أن الدولة الاتحادية تقوى كلّما احترمت قواعدها، لكن التدقيق يكشف عن أن «الخوف من كردستان» ليس قدراً سياسياً، بل نتاج مزاجٍ مركزي قديم يُسيء فهم الفيدرالية ويخلطها بالتفكك، ثم يوظّف هذا الخلط في إدارة صراعات النفوذ والميزانيات، على هذا الأساس يتصرّف بعض الفاعلين في بغداد بوصفها «حكومة مركزية»، مع أنّ التسمية الدستورية الحاكمة منذ 2005 هي «الحكومة الاتحادية»، والفرق بين المصطلحَين ليس لغوياً: «المركزية» تعني تكثيف السلطات في قبضة واحدة، أمّا «الاتحادية» فتقوم على توزيعها بين بغداد والأقاليم والمحافظات غير المنظمة في إقليم، لهذا يتعمّد الإقليم استعمال المفردة الدستورية بدقّتها، لا مجاراة مفردةٍ سياسية تُعيد عقارب الساعة إلى ما قبل العقد الاجتماعي الجديد.
يغذّي هذا الخوف إرثُ دولةٍ تعوّدت أن تُدار من نقطة واحدة، فتقرأ أي قصة نجاح خارجها بوصفها «عدوى» محتملة، هكذا تُرى تجربة كردستان، بكل تناقضاتها وتحدّياتها، بوصفها اختباراً لصلابة الهرم لا بصفتها فرصة لإعادة توزيع عقلاني للصلاحيات، ومع كل منعطف -من إدارة الموارد إلى المناطق المختلطة- يتقدّم خطاب التعبئة على لغة القواعد، فيُختزل النقاش في سؤال: من يملك القفل والمفتاح؟ وفي الطريق، تُستعاد مفردة «المركزية» لتبرير استعادة ما تفرّق من السلطات، بدل ترسيخ ما اتُّفق عليه من توزيعٍ يضمن وحدة الدولة وعدالتها معاً.
في التطبيق، يتحوّل الضغط الاقتصادي إلى أداةٍ سياسية: قطع الرواتب حيناً، والتلاعب بسقوف الموازنة حيناً آخر، وفرض شبه حصار على صادرات الإقليم عند الحاجة؛ كلّها وسائل لإبقاء اليد العليا تفاوضياً، والمؤلم أن هذه الأساليب تُستَخدم أيضاً للتغطية على تردّي الأوضاع في محافظات الجنوب والوسط التي تُحكم باسم «الأغلبية»، لكنها تعاني خدماتٍ متراجعة وبطالةً وتهشّماً في الثقة العامة، بدل الاعتراف بالمشكلة ومعالجتها، يُستحضر الإقليم خصماً جاهزاً ومتنفّساً لغضبٍ اجتماعي متراكم.
على الضفة المقابلة، يختار قادة الإقليم النفس الطويل: يدٌ ممدودة وخيارٌ ثابت بالعودة إلى النص الدستوري وآلياته، لا إلى سوق المزايدات، تُفضَّل لغة الربط المؤسسي على الانفعال: تدقيقٌ مشترك في الإيرادات، خطط إنتاج وتسويق شفافة، وإدارةٌ منسّقة للمنافذ والحدود، واللافت أن ازدهار كردستان وتطوّره العمراني والخدماتي، على الرغم من محاولات وضع العصي في العجلة، استمرّ بوصفه اتجاهاً عاماً؛ ليس لأن الإقليم بمنأى عن الضغوط، بل لأنه استثمر في الاستقرار والانفتاح، فحوّل جزءاً من التوتر إلى حوافز لإصلاح داخلي وتحديث إدارة الموارد.
المعادلة الصفرية التي تُكافئ الضجيج وتُعاقب القواعد كلّفت البلاد كثيراً: تعطيل أنبوب يُربك الاقتصاد، ومكاسرة على الرواتب تربك الأسواق، واستثمار في الاتهامات يقود إلى سباق مظلوميات بين المحافظات بدل سباقٍ على الأداء، والدواء ليس صعباً: أن تُسمّى الأشياء بأسمائها أولاً -«اتحادية» لا «مركزية»- ثم تُترجم هذه التسمية إلى مؤسسات مشتركة تحسم الخلاف بالأرقام لا بالشعارات، فتُصان صلاحيات الأقاليم والمحافظات المنتِجة ويُطمأن المستثمر والمواطن معاً.
لا يقدّم الإقليم «تنازلاً» حين يمدّ يده، بل يقدّم نموذجاً يراكم مكاسب بطيئة وثابتة للدولة كلها، أمّا محاولات كبحه، فتكشف عجزاً عن إنتاج بديلٍ مقنع في مناطق تُدار بالخطاب أكثر مما تُدار بالخدمة، بين خوفٍ يصنع خصماً افتراضياً ونَفَسٍ طويل يصنع قواعد مشتركة، يبدو الخيار واضحاً: عراقٌ يطمئن لنجاح كردستان بدلاً من أن يخشاه، لأن نجاحه هو الدليل العملي على أنّ الاتحادية ليست خصماً لوحدة الدولة، بل طريقها الواقعي إلى عدالةٍ ممكنة واستقرارٍ مستدام.

