قالها الفريق ياسر العطا بصوته الحاسم، وبنبرة رجلٍ يعرف أين يقف وإلى أين يريد أن يمضي، كنتُ أجلس أمامه في لقاء امتد ثلاث ساعاتٍ كاملة، لكنّ الزمن بدا أطول بكثير؛ فكل جملة منه كانت تحمل وزن معركة، وكل كلمة كانت تبدو وكأنها تخرج من خندق، لا من مكتب. في ذلك اللقاء، لم يكن العطا يتحدث كمسؤول رفيع في الدولة، بل كمقاتل عاش السنوات القاسية التي عبرت فوق جسد السودان، ورأى بأمّ عينيه كيف حاولت المليشيات تفكيك آخر ما بقي من صبر هذا الشعب وصمود جيشه.
قال لي العطا: لن نسكت ولن نساوم. دارفور لن تسقط، وكردفان لن تُسلَّم. السودان ليس متاعاً للمرتزقة ولا محطة عبور لمشاريع الآخرين؟
كانت تلك الكلمات بداية الحديث، وجوهره، وخلاصته. حديث رجلٍ يعرف أن الخطر اليوم ليس فقط بندقية مرتزق، ولا طائرة مُسيّرة، بل مشروع كامل يُبنى على أنقاض الجغرافيا السودانية، يُراد له أن يعيد تشكيل المنطقة على حساب الخرطوم، وعلى حساب قيم السودان التاريخية.
في حديثه المفصل، كشف العطا تفاصيل معركة استرداد دارفور وكردفان، وكيف تحولت تلك الجبهات إلى ميدان اختبار حقيقي لقدرة الجيش السوداني على الحفاظ على هويته، ومؤسسات الدولة على حماية ما تبقى من سيادتها. لم يكن يتحدث بانفعال، بل بثقة رجل يعرف حجم المعركة وحجم الواجب. قال:
قوات الدعم السريع لم تعد قوة متمردة داخل الحدود فقط، بل تحولت إلى ذراع لمرتزقة جاؤوا من وراء الحدود. هناك من يريد لهذه البلاد أن تُدار من خارجها، ونحن نقول: لن يحدث.
كانت تلك الجملة مفتاحاً مهماً لفهم ما يدور في دارفور وكردفان. فالمعركة لم تعد بين جيش وميليشيا فقط، بل بين دولة تريد البقاء، وأدوات إقليمية تحاول رسم خريطة نفوذ جديدة على حساب دماء السودانيين.
الفريق العطا لم يتردد في تسمية الأشياء بأسمائها. قال بصراحة:
لدينا أدلة كاملة على أن مجموعات من دول الجوار دخلت السودان عبر ممرات آمنة لتقاتل مع الدعم السريع. هؤلاء لا يقاتلون من أجل السودان، بل من أجل المال. مرتزقة بكل معنى الكلمة. وهناك دولٌ تُسهل مرورهم، ودولٌ أخرى تقدم الدعم اللوجستي، وثالثة توفر الغطاء السياسي.
ثم أضاف بحدة:
لكنهم نسوا شيئاً… نسوا أن السودان لا يُباع، وأن جيشه لا يُهزم. في حديثه، كان الفريق العطا يشير إلى خارطة معقدة من المحاولات التي تستهدف السودان. لم تكن المليشيات وحدها في الميدان، بل شبكة مصالح تمتد من حدود ليبيا إلى حدود أفريقيا الوسطى، ومن القرن الأفريقي إلى أطماع قوى تبحث عن ثروات هذا البلد من ذهب ومعادن ونفط وأرض. قال:
عندما نُمسك أحدهم، نجده لا يعرف شيئاً عن السودان. يسألك: أين أنا؟ بأي مدينة؟ هو لا يقاتل لأنه مقتنع، يقاتل لأنه مأجور. وهنا تكمن خطورة ما نواجهه.
سألته عن معركة دارفور تحديداً، فأجاب وهو يضغط على كفيه:
دارفور ليست جغرافيا فقط، دارفور رمز. وإذا سقط الرمز، تسقط الهيبة، تسقط الدولة. لهذا كان القتال هناك مختلفاً. أردنا أن نُثبت للجميع في الداخل والخارج أن الجيش السوداني ما زال قادراً على قلب الموازين.
ثم تابع:
المعركة صعبة، نعم. لكننا نعرف تضاريس دارفور كما نعرف خطوط أيدينا. نعرف جبالها ووديانها وطرقها السرية، والمليشيات لا تعرف شيئاً، تعتمد فقط على المرتزقة، وعلى دعم يأتيها من وراء الحدود.
في الساعة الثانية من اللقاء، بدأ العطا يتحدث بعمق أكبر عن البعد السياسي للمواجهة. قال:
المشكلة ليست عسكرية فقط، بل سياسية قبل كل شيء. هناك مشروع لإعادة تشكيل السودان، مشروع يريد أن يستبدل الدولة بمليشيا، والمؤسسات بشخص، والوطن بقبيلة. وهذا المشروع لن يمر.
وأضاف:
من يدعم الدعم السريع اليوم، لا يدعمه حباً فيه، ولا حرصاً على السودان، بل رغبة في تحويل البلاد إلى منطقة رخوة، بلا دولة قوية، بلا جيش قادر، بلا قرار مستقل.
ثم نظر إليّ بثبات وقال:
هذه ليست معركة جغرافيا، هذه معركة وجود!
أكثر ما لفت انتباهي هو وصفه الدقيق لمحاولات تدمير البنية الاجتماعية السودانية. قال:
يريدون لدارفور أن تنفصل عن قلب السودان، ولجبال النوبة أن تبتعد، ولشرق البلاد أن يغرق في الفوضى. يريدون أن يتحول السودان إلى مربعات معزولة يسهل التحكم فيها.
ثم رفع صوته قليلاً:
لكنهم لا يعرفون السودانيين. لا يعرفون نخوتهم. لا يعرفون صبرهم.
وفي حديثه عن كردفان، قال العطا:
كردفان خط أحمر، ليس لأنها منطقة استراتيجية فقط، بل لأنها بوابة العاصمة. إذا سقطت كردفان، فإن الخرطوم ستكون مكشوفة. لذلك نحن نقاتل هناك كما لو أننا نقاتل على أبواب بيوتنا.
وتابع:
الدعم السريع حاول بكل الطرق أن يجعل كردفان نقطة انطلاق نحو الخرطوم. حاول أن يفتح ممرات عبر القرى ويشتري ولاءات عبر المال. لكنّ أهالي كردفان خذلوه، ووقفوا مع الجيش، لأنهم يعرفون أن وجود هذه المليشيا يعني نهاية البلاد.
ثم انتقل الفريق العطا إلى الحديث عن المرحلة القادمة. قال:
نحن لا نقاتل اليوم من أجل موقع أو مدينة. نحن نقاتل من أجل أن يبقى السودان بلداً واحداً، لا تابعاً لأحد. المعركة القادمة ستكون معركة استعادة الدولة بالكامل. استرداد دارفور وكردفان هو البداية فقط.
ثم أضاف بثقة عسكرية لا تخطئها الأذن: الجيش سيستعيد كل شبر. وسنفعل ذلك مهما طال الزمن، ومهما كانت التضحيات.
وفي نهاية اللقاء، قال لي جملة لم تفارق ذهني:
قد يتعب الجندي، لكن الجيش لا يتعب. قد تتأخر المعركة، لكنها لن تُهزم.
خرجت من جلستي مع الفريق ياسر العطا وأنا أدرك أن السودان، بالرغم من الآلام والجراح والضغوط الدولية، ما زال يملك رجالاً يعرفون معنى القسم العسكري، ويعرفون أن الأوطان لا تُحفظ بالشعارات، بل بالثبات، وبالوعي، وبالقدرة على مواجهة مشاريع التفكيك مهما تعددت ألوانها.
قال لي الفريق العطا…
وكان كل ما قاله يشبه وعداً صريحاً بأن السودان سيعود، وأن دول الجوار التي تراهن على ضعف الخرطوم ستكتشف قريباً أن السودان قد يمرض، لكنه لا يموت.


