ميسون الدخيل
نشر أحدهم في «X» خبرا جاء فيه أن عمدة نيويورك المنتخب حديثًا، وهو مسلم، قد قرر فرض تدريس الأرقام العربية في المدارس، وكأن الخبر كان اختبار ذكاء، فلقد نزلت التعليقات الرافضة تهف كالمطر! قلة من انتبه وأخبر القطيع بأن الأرقام العربية هي التي تدرس أصلًا في المدارس والجامعات وتستخدم يوميًا من قبلهم، بل إن هنالك من ركب الموجة على الجهل بأن أضاف، مستفزًا: «لم يبق سوى أن يدرسونا الجبر والخوارزميات في المدارس!»، لقد استمتعت حقًا وأنا أقرأ التعليقات وضحكت من قلبي على من يعتبرون أنفسهم أعلى وأرقى وأكثر تمدنا من بقية البشر! تزايدت مؤخرًا الأصوات المطالبة بإخراج المسلمين والإسلام من المجتمعات الغربية، وخاصةً داخل الولايات المتحدة، وقد عززت الأحداث الأخيرة في أماكن مثل ديربورن هذا الخطاب، حيث أكد المعلقون أن «الإسلام لا يتوافق مع الثقافة الغربية»، أثار لدي هذا الادعاء تساؤلات جوهرية حول ماهية الأساس الثقافي الذي يسعون للدفاع عنه، وهو أساس متأثر بشدة بالفكر النسوي الحديث، وفي طليعة هذه الحركة تقف «سيمون دي بوفوار»، وهي شخصية تُبجل عندهم كرائدة في الفلسفة النسوية، ومع ذلك، يكمن وراء إسهاماتها المرموقة إرثٌ مليء بالتناقضات والغموض الأخلاقي. لنبدأ بانتهاء فترة عمل «سيمون» كمعلمة في إحدى الثانويات بجدل، ما ألقى الضوء على تناقضاتها الأخلاقية؛ ففي عام 1943، طُردت من منصبها كمعلمة لدعوتها طالبات للقاء حبيبها «جان بول سارتر»، هذه الحادثة المشينة لا تعكس فقط تقصيرًا فادحًا في آداب المهنة، بل تثير أيضًا تساؤلات حول التزامها بواجباتها كمعلمة؛ بإعطاء الأولوية لأهوائها الشخصية على التزاماتها بصقل عقول الشباب، تكشف دي بوفوار عن فجوة عميقة بين مُثُلها الفلسفية وأفعالها، امرأةٌ دافعت بحماسٍ عن التحرر، ولكنها مارست سلوكًا ينتهك المعايير الأخلاقية المتوقعة من شخصٍ في منصبها، والمفارقة لافتة للنظر: فبينما كانت تُدافع عن الاستقلالية والأصالة، تجاهلت أفعالها بشكلٍ صارخ المسؤوليات التي ينبغي أن تُرافق هذه المُثل، هذا النفاق لا يُضعف مصداقيتها فحسب، بل يُرسي سابقةً مُقلقةً لمن ينظرون إليها كسلطةٍ أخلاقية. في كتابها الرائد «الجنس الآخر»، تُجادل بأن النساء مُقيّدات بالأدوار المنزلية، مُشبّهةً العمل المنزلي التقليدي بنوع من العبودية! وبينما تُلامس هذه المشاعر تجارب العديد من النساء، إلا أنها تُغفل القيمة الجوهرية للرعاية والتنشئة - وهما الدوران الأساسيان اللذان يُوفّران الاستقرار في الحياة الأسرية؛ أي بإدانتها العمل المنزلي، تُخاطر بتنفير النساء اللواتي يستمدّنَ السعادة والرضا من هذه الأدوار الحيوية في التركيبة الأسرية، حيث نجد أن خطابها يُرسخ روايةً مُضلِّلة، إذ يُروِّج لفكرة أن أيَّ تحمُّلٍ للمسؤوليات المنزلية هو بمثابة خضوع! ولهذا المنظور تداعياتٌ بالغة، إذ يُشير إلى أن التحرر يستلزم رفض الأدوار ذاتها التي تجدها الكثيرات من النساء ذات معنىً عميق. علاوة على ذلك، تتجاهل نظرياتها الجهد العاطفي والحب المُضحّي اللذين يُميزان ديناميكيات الأسرة السليمة، وبمعاملتها البيئات المنزلية كسجون، تُهمل دي بوفوار الفروق الدقيقة في الاختيار والقدرة على التصرف التي تختبرها العديد من النساء ضمن هذه الأدوار، وبتجاهلها لهذه التعقيدات، تُروّج لنظرة مُبسطة تُقلّل من قيمة الالتزامات الأسرية. والمصيبة الكبرى التي يجهلها الكثيرون أن مراسلاتها مع الكاتب الأمريكي «نيلسون ألغرين» تكشف عن نفاقٍ عميق يتناقض مع قناعاتها الفلسفية! ففي رسائلها، أعربت عن استعدادها لخدمته بل أن تكون تحت أمره في كل ما يريدها أن تقوم به، وهو اعترافٌ يتعارض تعارضًا صارخًا مع أيديولوجيتها النسوية القائمة على الاستقلالية، ألا يثير هذا الخضوع تساؤلاتٍ جوهرية حول فهمها للتمكين والعلاقات؟! يُلقي هذا الحدث ضوءًا واضحًا على واقع حياتها الشخصية، مُشيرًا إلى أن حتى مُناصرة التحرر قد تُعاني من مُثلها العليا ذاتها، هذه التناقضات ليست مجرد عيوب شخصية؛ بل تُشكّل سرديةً أوسع تُعقّد سلطتها الأخلاقية؛ بادعائها الدفاع عن استقلال المرأة، وفي الوقت نفسه، التعبير عن استعدادها لإخضاع هويتها لرجل، تُصوّر «سيمون» صورةً مُعقدةً - ومُتضاربةً في كثير من الأحيان - للأنوثة! إن دققنا في حياتها وكتاباتها نجد أن مواقفها الفلسفية تهدد بتقويض القيم التقليدية التي تُعزز الاستقرار الأسري، فإصرارها على تغليب الرغبات الفردية على المسؤوليات الجماعية يُغذي ثقافة التناقض الأخلاقي، مما يُضعف الروابط الأسرية، لأن إعلاء شأن تحقيق الذات على حساب الالتزام العاطفي يُعزز بيئةً مليئةً بعدم الاستقرار في العلاقات والانفصال العاطفي. يتجاهل نهج «سيمون» التعقيدات الأخلاقية الكامنة في العلاقات الإنسانية؛ فبينما سعت إلى صياغة إطار فلسفي جديد لتحرير المرأة وعاشت هي علاقات متعددة مع رجال ونساء، إلا أن نظرياتها عززت التشرذم المجتمعي بتجاهلها القيم التقليدية التي تُعلي من شأن الحب والالتزام والواجب الأسري. ويُهدد التقليد غير النقدي لأفكارها بتكريس فراغ أخلاقي كبير، حيث يطغى هوس الحرية الشخصية على إرث التواصل الحقيقي والاستقرار العاطفي. بما أن إرث سيمون دي بوفوار، إلى جانب المُثُل التي يدافع عنها أتباعها، يتعارض جوهريًا مع تعاليم كل من المسيحية والإسلام، ألا تُعتبر حجتهم معيبةً جوهريًا؟! هذا التنافر لا يكشف فقط عن جهلٍ عميق بمبادئ الإسلام، بل يكشف أيضًا عن عدم فهمٍ لتعاليمهم الدينية داخل المسيحية التي يدعون أنها عمود ثقافتهم وبوصلة تعاملاتهم. إن تخلصوا من سموم النظريات والأيدولوجيات المضللة سوف يجدون أننا أقرب إليهم ممن يعتبرونهم «الحليف الأوحد»!القطيع الذي يعتمد العدو على جهله
مواضيع ذات صلة

