يبدو المشهد، في النظرة الأولى، مجرد لوحة بروتوكولية هادئة: وزيرٌ يتنقّل بين دعوة رسمية وأخرى، يجلس في صدر الاجتماعات، يوقّع البيانات الختامية، ويقف لالتقاط الصور المألوفة التي تحفظها كاميرات المؤتمرات. صورةٌ تشبه آلاف الصور التي تمرّ أمام أعين الناس فلا تستوقفهم. لكنّ ما يقع خلف تلك اللقطات، في المناطق المواربة من المشهد، يحمل ظلالاً أعمق وأغنى من ظاهرها العابر. فالمهمّات التي تبدو رسمية لا تفصح دائماً عن حقيقتها، والرحلات التي تحمل شعار “مصلحة الدولة” كثيراً ما تُخفي بين تفاصيلها امتيازات لا يراها إلا من قارب دائرة الضوء.
السفر هنا ليس فعلاً إدارياً محضاً. إنّه عالمٌ آخر يفتح أبوابه للوزير، عالمٌ تُنسّق أيامه بحرصٍ شديد، وتُسيَّج مساحاته بما يشبه الرفاهية المستترة. فالدعوات تنهال من دولٍ شقيقة وصديقة؛ وزراء ومسؤولون يجمعهم خطابٌ دبلوماسي واحد، أو مصالحُ تتشابك خيوطها فوق الطاولة وتحتها. وتأتي أيضاً دعوات من مؤسسات وهيئات دولية ترى في حضوره “تمثيلاً واجباً”، فلا يُتصوَّر أن يغيب عنه.
وتتسع الدائرة أكثر مع تلك السفرات التي تُسند إليه بقرار مباشر من رئيس الحكومة أو مجلس الوزراء: مهمّات تحمل صفة العجلة والضرورة، لكنها تمنح صاحبها، في أعمق أعماقها، فسحةً داخلية لا يراها الآخرون. فالرجل الذي يرزح تحت وطأة الاجتماعات والتقارير والمذكرات الحادة، يجد في السفر نافذة يُطل منها على عالمٍ أقلّ توتراً، عالمٍ تتحرر فيه النفس قليلاً من أعباء اليوميين: من السجالات، والتوقيعات المتلاحقة، وضجيج السياسة الذي لا يهدأ.
هكذا يتداخل الرسمي بالشخصي، فيصبح السفر حالة مزدوجة: مهمّة في ظاهرها، واستراحة في باطنها. وما بين الندوات والجلسات واللقاءات، ينساب الوقت ببطءٍ حميمي، كأنّ المدن المضيفة تفتح للوزير قلبها وتقول له: “هنا يُمكنك أن تتنفس بعيداً عن أثقال الداخل".
وللسفر جاذبيته التي لا تُقاوَم:
تذاكر مدفوعة بالكامل، غرف فندقية فاخرة محجوزة مسبقاً، سياراتٌ بانتظار الوصول، وموائد تُعد بعناية، وبرامج تجمع بين الجدية والتسلية، حتى يبدو اليوم موزعاً بتوازن بين عملٍ يُؤدّى ومتعةٍ تُحصَد.
إنها رفاهية لا تحتاج إلى طلب، بل تأتي كجزء من “المشهد الطبيعي” للمهمة. يصبح السفر هنا تجربة ذات طبقتين: طبقة العمل التي تُرى، وطبقة الامتياز التي لا تُقال صراحة لكنها تُمارس بوضوح.
غير أنّ الامتياز الأبرز، ذاك الذي لا يَطاله الضوء عادة، يكمن في “المياومات”: مبالغ تُمنح للوزير عن كل يوم يقضيه خارج البلاد. مبالغ تُصرف تحت عنوان “بدل سفر”، لكنها تتحول، بمرور الوقت وبسهولةٍ محبّبة، إلى فائض يشتري هدية للعائلة، أو يُودَع في الحساب المصرفي، أو يبقى معهم كشاهد صغير على رحلةٍ جمعت بين الرسمية والخصوصية في آن واحد.
وبين رحلةٍ وأخرى، تنسج الأيام خيطاً متواصلاً من السفرات، حتى تغدو جزءاً من الإيقاع الطبيعي للمنصب. رحلة تتبعها رحلة، وامتياز يلحقه امتياز، وكل شيء يجري بصمتٍ نبيل، دون أن يشعر أحد بأنّ هناك ما يستحق النقاش. لقد بات هذا كله عرفاً غير مكتوب، لا يُصرَّح به، لكنه معروف ومتداول، يعيش بين الهمس والابتسامة الصامتة التي يفهمها الجميع ويتجنبون الخوض في تفاصيلها.
ولعلّ أكثر ما يثير التأمل هو هذا التواطؤ الصامت بين ما يُعلن وما يُخفى: فالمهمّة تُقدَّم كضرورة وطنية، بينما يستظل الوزير بظلال راحة شخصية لا ينكرها، حتى لو لم يُصرّح بها. وفي هذه المنطقة الضبابية بين الواجب والهوى، تنشأ أسئلة كثيرة، لا تنطق بها الأفواه لكنها تستقر في ذهن المتلقي:
هل السفر فعل وطني أم مكافأة صامتة؟
هل هو ضرورة الدولة أم امتياز الموقع؟
أهو جسر للدبلوماسية أم جسرٌ للراحة؟
أسئلة لا تبحث عن إدانة، بل عن فهم أعمق لهذا التداخل الذي يُلوّن المشهد بلونٍ لا هو أبيض خالص ولا أسود خالص. فالحياة العامة ليست صفحة ناصعة دائماً؛ هي خليطٌ من الأدوار، من الإكراهات والرغبات، من الواجب الذي لا مفرّ منه، ومن الإنسانية التي تطل برأسها مهما اشتدت الرسميات.
وهكذا يبقى السفر الوزاري مرآةً تعكس طبقاتٍ متراكبة من المعاني: مهمّة تُؤدّى، وامتياز يُمارس، وصورةٌ تُلتقط لتُخفي تحتها ما لا يُلتقط. ويبقى السؤال معلقاً، يرفرف فوق السطور دون أن يستقر على إجابة حاسمة:
أهي مهام دولة، أم امتيازات موقع؟

