من كهف شانيدر تبدأ الحكاية. هناك، في أعماق جبال برادوست، اكتشفت البعثة الأثرية بقيادة رالف سولكي بين عامي 1953 و1961 تسعة هياكل تعود إلى إنسان النياندرتال، بعضها يرجع إلى نحو 50 ألف عام. وقد دلّت طريقة ترتيب العظام وحبوب اللقاح حولها على وجود طقوس دفن ورعاية للمرضى، وهو ما يؤكد أن هذه الأرض لم تكن يومًا محطة عابرة، بل موطنًا متجذرًا للحياة البشرية منذ بدايات الوعي الإنساني. ومن هذا الامتداد السحيق، يبدأ فهم حقيقة أن كوردستان ليست وليدة لحظة سياسية، بل استمرارًا لحضور بشري ضارب في عمق الزمن.
ومع بداية القرن العشرين، دخل الكورد مرحلة جديدة من الصراع مع القوى الكبرى. بعد انهيار الدولة العثمانية، حملت اتفاقية سيفر عام 1920 بندًا واضحًا يتيح للكورد حق تقرير المصير وإمكانية إقامة دولتهم. لكن هذا الاعتراف لم يدم طويلًا؛ إذ جاءت اتفاقية لوزان عام 1923 لتشطب وجود الكورد من السجلات الدولية وتقسّمهم بين أربع دول، واضعة الأساس لقرن من الاضطهاد السياسي واللغوي والثقافي.
ومنذ ذلك الحين، لم تهدأ الثورات الكوردية، بدءًا من انتفاضة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية، مرورًا بثورة بارزان الأولى ثم الثانية، وصولًا إلى ثورة أيلول بقيادة الملا مصطفى بارزاني، التي استمرت حتى عام 1975 حين تم توقيع اتفاقية الجزائر بين بغداد وطهران. هذه الاتفاقية لم تُنهِ الثورة فحسب، بل فتحت الباب أمام واحدة من أكثر الحملات وحشية في تاريخ الشرق الأوسط.
في ثمانينيات القرن الماضي، شنّ النظام العراقي حملة الأنفال التي امتدت بين 1987 و1988 واستهدفت 4 آلاف قرية، وأسفرت، وفق وثائق المحكمة الجنائية العراقية العليا، عن 180 ألف شهيد، بينهم نساء وأطفال وشيوخ جرى دفنهم في مقابر جماعية في صحارى الجنوب. وفي 16 آذار 1988، هزّ العالمَ مشهدُ قصف حلبجة بالأسلحة الكيمياوية، الذي راح ضحيته أكثر من 5 آلاف مدني خلال ساعات قليلة. كانت تلك اللحظة شهادة أخرى على أن الكورد لم يكونوا مجرد “تجربة سياسية”، بل شعبًا دفع أثمانًا بشرية هائلة ليحافظ على وجوده.
وبعد انتفاضة 1991، وضمن ظروف حماية دولية محدودة، اختار الكورد أن يؤسسوا مؤسسات سياسية تعبّر عن إرادتهم. وفي 1992 جرى انتخاب برلمان كوردستان كأول مؤسسة تشريعية كوردية في تاريخ العراق الحديث. لم يكن البرلمان رمزًا إداريًا فقط، بل إعلانًا عن أن مجتمعًا أنهكته الحروب قادر على بناء مؤسسات ديمقراطية بالرغم من الحصار والجراح.
ومع سقوط النظام العراقي عام 2003، لم يدخل الكورد إلى بغداد فاتحين ولا طامعين، بل اختاروا المشاركة طوعًا في تشكيل العراق الفيدرالي الجديد. فقد لعبت القيادات الكوردية دورًا أساسيًا في صياغة دستور 2005 الذي أقرّ الفيدرالية والحقوق القومية وصلاحيات الإقليم. لقد دخل الكورد العملية السياسية اعتقادًا منهم بأن عراقًا ديمقراطيًا يمكن أن يضمن لهم شراكة حقيقية، لا موقعًا شكليًا. لكن السنوات اللاحقة أثبتت أن هذا الطريق لم يكن سهلًا، إذ برزت قوى سياسية سعت إلى تقليص صلاحيات الإقليم ومحاولة الالتفاف على مبادئ الدستور، خصوصًا فيما يتعلق بالميزانية والنفط والمناطق المتنازع عليها.
ولم تقف الضغوط عند المركز فحسب؛ فقد سعت بعض الأحزاب العراقية إلى تشتيت الصف الكوردي من الداخل، عبر اللعب على الانقسام الحزبي ومحاولة استغلال الخلافات السياسية بين الأحزاب الكوردية لفرض واقع جديد يقلّص من قوة الإقليم وتأثيره في بغداد. هذه المحاولات ليست جديدة، بل امتداد لأساليب قديمة استخدمتها حكومات عراقية متعاقبة لإضعاف الحركة الوطنية الكوردية، مستفيدة من أي تباين داخلي لتحويله إلى أداة ضغط أو ابتزاز.
واليوم، بعد قرن من الوعود المكسورة والحروب المفروضة والعهود التي لم تُحترم، يقف الكورد أمام لحظة فارقة. لقد أثبت التاريخ، من شانيدر إلى البرلمان، ومن سيفر إلى بغداد الجديدة، أن كوردستان ليست “مشروعًا تجريبيًا” بل مسارًا تاريخيًا لشعب يناضل كي يعيش بكرامة على أرضه. لهذا، فإن الحفاظ على هذا الإرث ليس مسؤولية المؤسسات وحدها، بل مسؤولية الشعب بكافة مكوناته.
وحدة الصف الكوردي لم تكن يومًا شعارًا، بل ضمانة وجود. فالتجارب السابقة، بكل آلامها، تثبت أن انقسام الكورد هو البوابة التي تعبر منها محاولات التهميش وتقليص الحقوق. واليوم، يجب أن يدرك الجميع أن القوى التي تسعى إلى تقسيم القرار الكوردي لا تستهدف حزبًا بعينه، بل تستهدف تاريخًا طويلًا من النضال، ومستقبلًا يمكن أن يضيع إذا تحوّل التنافس السياسي إلى قطيعة وطنية.
وفي ختام هذا المسار التاريخي المتصل، تبرز الحقيقة كما هي: إما أن يبقى الكورد متحدين ليحافظوا على مكاسبهم، أو يتركوا المجال للقوى التي تريد إعادتهم إلى ما قبل دستور 2005. إن الدفاع عن كوردستان يبدأ من داخلها، من رصّ الصفوف واحترام الاختلاف، ومن التمسك بحقوق شعب قدّم من الدماء ما يكفي ليُسمَع صوته، لا ليُهمَّش مرة أخرى.
وحدة الكورد اليوم ليست خيارًا سياسيًا؛ إنها شرط البقاء.


