مسيحيو المشرق، (أقباط، آشوريون - سرياناً وكلداناً-،ارمن)، شعوب أصيلة،أقوام متجذرة، بناة حضارات عريقة في هذا المشرق. نظراً للأهمية الاستراتيجية والاقتصادية لمناطقهم (مصر، بلاد ما بين النهرين، سوريا التاريخية، ارمينيا)،شكلت هدفاً دسماً لمعظم الامبراطوريات التي ظهرت عبر التاريخ. بالنظر للصلة التاريخية والتجاور الجغرافي ودخول بعض القبائل العربية المسيحية، تأمل مسيحيو المشرق، بشكل خاص مسيحيو سوريا وبلاد ما بين النهرين، أن يساعدهم العرب المسلمين في تحرير بلدانهم من الاحتلالات الأجنبية، الرومان /البيزنطيين والفرس، ويعود العرب المسلمين الى من حيث أتوا، الى (شبه جزيرتهم )، وترك الشعوب المسيحية تدير شؤونها وتقرر مصيرها في مناطقها التاريخية. لكن الغزاة الجدد (العرب المسلمين) خيبوا آمال الآشوريين(سرياناً وكلدناً) ومسيحيي المشرق عموماً. لأن مشروعهم كان البقاء والاستيطان في جميع المناطق التي يغزونها ويحتلونها وضمها الى مشروع "الدولة الاسلامية". فما أن ترسخت وتعززت سلطة العرب المسلمين،العسكرية والسياسية والدينية، حتى بدأوا بفرض دينهم الجديد "الاسلام" على المسيحيين بطرق وأشكال مختلفة. وأخذوا من" العهدة العمرية" - المنسوبة لعمر بن الخطاب- "دستوراً وقانوناً" حُدد بموجبها حقوق وواجبات المسيحيين تحت حكم المسلمين، حقوقاً اكثر دونية من حقوق (الرق والعبيد). من قاوم الاحتلال العربي الاسلامي ومن رفض شروط العهدة العمرية من المسيحيين كان مصيره القتل. جراء الممارسات والاجراءات العنصرية والمظالم والقهر وما تعرضوا له من عمليات إبادة جماعية وتطهير عرقي وديني- الأكثر بشاعة وفظاعة حصلت إبان الاحتلال العثماني الاسلامي(مذابح 1915)- انحسر وتراجع وجود المسيحيين في المشرق، حتى تلاشى كلياً في بعض المناطق، وفي مناطق أخرى أصبحوا أقليات، دينية وعرقية، متناثرة محاصرة وسط تجمعات اسلامية، مهددة بالاقتلاع من جذورها.
مع نشأة(الدول الوطنية) في بداية القرن العشرين واستقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، استبشر مسيحيو المشرق خيراً، تفاءلوا بمستقبل جديد، تنتهي فيه المظالم والاضطهادات بحقهم. تأملوا أن يعيشوا كمواطنين بكامل حقوق المواطنة والمساواة مع شركائهم المسلمين في كنف الدول التي ساهموا في استقلالها وازدهارها. لأجل هذا اطلقت النخب المسيحية،ومعها النخب العلمانية الليبرالية المسلمة، مشروع "الدولة المدنية" باعتباره النموذج الأمثل لبقاء المسيحيين واستمرارهم في أوطانهم الأم. لكن سرعان ما خابت آمال المسيحيين المشرقيين من جديد. فقد اصطدم مشروع الدولة الوطنية برفض الاسلام التقليدي، الذي اصر على أن تكون "الشريعة الإسلامية" المصدر الأساسي للتشريع و"الاسلام" دين الدول أو دين رئيس الدولة. لقد بقيت الأنظمة (السياسية والاجتماعية والتربوية والتعليمية) للدول العربية والاسلامية في المشرق، أسيرة الأيديولوجيات والعقائد الدينية والقومية/العرقية. شكلت ومازالت هذه الآيديولوجيات والعقائد، البيئة الاجتماعية والثقافية والقانونية، لاضطهاد المسيحيين وغير المسلمين عموماً في مجتمعات المشرق.
"الهبات الشعبية" لما سمي بـ"الربيع السياسي العربي" نهاية 2010بداية 2011، كانت قد أعادت الأمل لمسيحيي المشرق بغدٍ افضل. لكن هذه الهبات، لأسباب داخلية وخارجية متداخلة، سرعان ما تحولت الى حروب أهلية ونزاعات عسكرية، جلبت الويلات والمآسي لشعوب هبت على الظلم والاستبداد والدكتاتوريات. هذه الحروب والنزاعات الأهلية، هي أكثر مأساوية وكارثية على مسيحيي المشرق، وبشكل خاص على مسيحيي سوريا والعراق. أنهم من جديد تعرضوا لعمليات تطهير عرقي وديني على ايدي التنظيمات الاسلامية المتشددة، بتواطؤ واضح ومفضوح من جيوش البلدين، في ظل صمت عربي اسلامي. في مصر الجديدة، بعد "ثورة 25 يناير"، تصاعدت وتيرة العنف الديني الممنهج ضد الأقباط المسيحيين. وصل الاستهتار والاستخفاف بكرامة الأقباط الى قيام جموع مسلمة، من قرية الكرم بمركز أبو قرقاص بمحافظة المنيا، بتعرية امرأة قبطية مسنة تعيش هي وعائلتها معهم منذ عقود طويلة، وسحلها في شوارع القرية أمام أنظار الأهالي والسلطات المحلية. في الاردن - لم تنتقل اليه بعد هبات الربيع الاسلامي-، اغتيال الكاتب والصحفي المسيحي ناهض حتر على يد مسلم متطرف، أمام باب المحكمة وبتواطؤ واضح من السلطات الاردنية، ينذر بمستقبل قاتم لمسحيي هذا البلد المشرقي. عن هذه الجريمة الطائفية، كتب عباس بيضون مقالاً بعنوان (ناهض حتر الذبح مرتين) نشر في جريدة السفير الثقافي بتاريخ 2016-10-07 جاء فيه: " حتر الذي ينتمي إلى أقلية دينية عريقة لا تبالغ إذا عدّت نفسها الأعرق والألصق بالأردن، لكن ماذا يفعل الأقلوي في هذا الشرق؟ ماذا يفعل أمام طغيان الأكثرية الدهماء، وأمام استيقاظ النعرات الدينية والعرقية؟ كان ناهض حتر المسيحي يُعِدّ نفسه ملحداً، لكن جازاه على إلحاده سلفيّ مسلم. ناهض حتر ذبح أمام بيت القانون، أمام المحكمة. لم يشفع له أنه أمام بيت القانون ولم يردع هذا قاتله. ذلك أنّ بيت القانون ليس شيئاً في حساب القاتل، أنّ له قانونه الخاصّ الذي يبيح القتل على الرأي وعلى الصورة وعلى الرمز والاستعارة". بالمحصلة، الانتفاضات والهبات الشعبية العربية الاسلامية، انتجت تنظيمات اسلامية أكثر تشدداً وإرهاباً ووحشية، مثل تنظيم الدولة الاسلامية- داعش والقاعدة وجبهة النصرة. أعادت بالمنطقة عقوداً ربما قروناً الى الوراء. زعزعت ما تبقى من وجود مسيحي في المشرق، وباتت المسيحية مهددة بالتلاشي والاندثار من المنطقة التي ظهرت فيها ومنها انتشرت الى باقي أنحاء العالم.
قرون طويلة، ومسيحيو المشرق صامتون، صابرون على المظالم التي لحقت وتحلق بهم تحت حكم المسلمين. عندما قرر المسيحيون الخروج عن صمتهم ورفع صوتهم عالياً شاكين من أوضاعهم المأساوية، مطالبين بحقوقهم في المواطنة الكاملة ومساواتهم مع شركائهم المسلمين فيس أوطانهم الأم، تبارى الكثير من المسلمين، مشايخ وأئمة وكتاب ومثقفين وسياسيين ونخب وحكام، في التهجم على مسيحيي المشرق وتخوينهم والتشكيك بولائهم لأوطانهم واتهامهم بالحقد على الاسلام والمسلمين. بعضهم وصفهم بـ"بقايا الصلبيين". العديد من الأئمة والمشايخ دعا الى هدم كنائسهم وتهجير وطرد من تبقى منهم في "ديار المسلمين" وفق تعبير هؤلاء الأئمة والمشايخ. قبل ايام، في لقاء مع قناة البغدادية، افتى المرجع الشيعي العراقي (القائد احمد الحسني البغدادي) بتخيير مسيحيي العراق بين دخول الإسلام او القتل. مبرراً فتوته بالقول " مسيحيو العراق هم مشركون علينا قتالهم وسبي نسائهم وتكون حلال لنا التمتع بهن.... وان المسيحيين يمثلون الصهيونية في العراق وان المشروع الاسلام الجهادي يحلل لنا قتالهم". كما كل الفتاوى الاسلامية السابقة، التي تحلل قتل المسيحيين وسبي نسائهم وفتياتهم، لم يصدر أي رد فعل من المرجعيات الاسلامية العربية وغير العربية، تدين وتستنكر فتوى المرجع الشيعي العراقي( أحمد الحسني البغدادي)!!
باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات