: آخر تحديث

ما وراء تكريم زياد الرحباني ونزع التكريم عن حافظ الأسد

2
2
2

في إعلان الحكومة اللبنانيّة أنّ «جادة حافظ الأسد» صارت تُسمّى «جادة زياد الرحباني»، ما يتعدّى إبدال اسم باسم إلى إبدال طريقة في النظر إلى العالم بطريقة أخرى. وهذا، في أغلب الظنّ، ما حوّل القرار إلى مادّة ملتهبة في التواصل الاجتماعيّ والإعلام، سيّما وأنّه أُعلن بعد دقائق على انتهاء جلسة الحكومة المخصّصة لسحب السلاح غير الشرعيّ من التداول.

فالوزراء الذين وافقوا على القرار هذا كان الكثيرون منهم لا يتّفقون مع آراء الموسيقار والفنّان الراحل السياسيّة، ومثلهم كان قطاع من جمهرة المحتفلين بالقرار لمجرّد أنّ «خصمهم» زياد الرحباني يستحقّ التكريم. وقبل أيّام فحسب احتشد، في جنازة الرحباني، عدد من «خصومه» السياسيّين الذين كانوا يكرّمون المبدع والإنسان اللذين كانهما الراحل. واللافت أنّ التكريم حصل في منطقة لا يربطها ودّ سياسيّ بالفقيد.

والحال أنّ هذه الطريقة في النظر إلى العالم تستأنف تقليداً عرفه لبنان في الزمن السابق على حربه الأهليّة، مفاده عدم تلخيص البشر في مواقفهم السياسيّة، والقدرة تالياً على رؤيتهم كائناتٍ ذوي أبعاد أغنى وأكثر. ومن هذا القبيل احتوت مناهج التعليم مثلاً تعريفاً للتلامذة بشعراء وأدباء ناصبوا التركيبة اللبنانيّة التقليديّة عداءً مُرّاً. وكان في عداد هؤلاء قوميّون عرب كرشيد سليم الخوري، وقوميّون سوريّون كفؤاد سليمان وسعيد تقيّ الدين، وشيوعيّون وأصدقاء للشيوعيّين كعمر فاخوري ورئيف خوري... وعملاً بالتوجّه نفسه، رُخّص، في الحقبة الممتدّة بين الخمسينات والسبعينات، لصحف ومجلات يعتبرها أيّ لبنانويّ ضيّق الأفق خطراً على لبنان. وفي الخانة هذه اندرجت مجلاّت شهريّة كـ«الآداب»، أو أسبوعيّة كـ«الحرّيّة» و«الهدف»، وصحف يوميّة كـ«المحرّر» و«السفير» و«النداء»...

في المقابل، فإنّ أصحاب العقليّة الأخرى المسيّسة حتّى النخاع، والتي يجتمع فيها الحسّ القبليّ والطموح التوتاليتاريّ، أزعجهم أن يكرّم الرحباني مَن لم يتّفقوا معه سياسيّاً، ولا اتّفق معهم. وهم راعَهم تكريم الشاعر سعيد عقل، عند وفاته قبل عشر سنوات، لا لسبب يتّصل بشاعريّته، إذ اتّصل سبب الانزعاج بمواقفه السياسيّة حصراً. وعلى مدى عقود، شكّل هؤلاء الامتداد الثقافيّ لبندقيّتي «حزب الله» والأمن السوريّ، فارضين على اللبنانيّين أيّ الكتب يترجمونها أو يقرأونها وأيّ الأفلام والمسرحيّات يحقّ لها أن تُعرض، وهذا تبعاً لمعيار سياسويّ ضيّق ينحاز إليه المذكورون.

وهؤلاء، وهم أرادوا فعلاً تكريم الرحباني بسبب مواقفه السياسيّة وما ينعكس منها على فنّه، شاؤوا أن يكون التكريم بإطلاق اسمه على شارع الحمرا تحديداً، بذريعة أنّه عاش هناك. لكنّ شيئاً من سوء الظنّ، الذي هو «من حُسن الفِطن»، يحمل على افتراض رغبة سوداء وراء هذا الاقتراح، مفادها توسّل تكريم الرحباني للتخلّص من شارع الحمرا واسمه. وتكفينا معرفة حدّ أدنى بتاريخ هذا الشارع الكوزموبوليتيّ، الذي لم ينفصل ازدهاره عن وجود الجامعة الأميركيّة في بيروت، وعن حضور الأجانب فيه (والذين خطف بعضَهم «حزب الله»)، لنحسّ بقلّة البراءة خلف اقتراح كهذا.

أمّا الاعتراض على إلغاء اسم الأسد الأب فيندرج في هذا التأويل ذاته. فالأسد وجه واحد وحيد هو وجهه السلطويّ كضابط استولى على بلده بالانقلاب العسكريّ، فأخضعه وأعمل فيه السيف. وهو لم ينجح في شيء كما نجح في إذلال اللبنانيّين، بعد السوريّين. وبهذا المعنى فوجود جادة تحمل اسمه (أو اسم قاسم سليماني أو الخمينيّ...) تذكير بأنّ اللبنانيّين سيبقون محكومين بهذه العلاقة التي تسيّس النظر إلى الكون فيما تنزع عنهم السياسة وتمضي في عزلهم عن العالم.

فليس ممكناً بالتالي إعمال الفرز والتمييز داخل شخص الأسد وتجربته، كأنْ نقول إنّنا نكره سياسته لكنّنا نحبّ غناءه أو عزفه أو حبّه للطبيعة...

وكان النجل الراحل باسل، حينما أريد إضفاء وجه «الفارس» عليه، قضى على منافسه الذي استحقّ وحده أن يكون «فارساً».

أمّا بشّار، النجل الآخر الذي ورث أباه في الحكم، فلم يكن أهلاً للتعبير عن البُعد الوحيد الذي نُسب إليه، أي البُعد السياسيّ. وكان واضحاً أنّ شخصه المُجَفِّف للمعاني والأبعاد هو كلّ ما لديه ولدينا.

فوق هذا وقبله، فكلّ تمسّك بجادة لحافظ إعلان عن كراهية المتمسّكين بها للشعب السوريّ الذي عانى ما عاناه على يديه قبل أن يحطّم تماثيله ويمزّق صوره. لا بل إنّ اللبنانيّين أنفسهم حينما انتفضوا، عام 2005، على النظام الأمنيّ السوريّ – اللبنانيّ الشهير، أزالوا نُصباً لحافظ ولابنه باسل في غير منطقة من لبنان.

وما يُؤمل اليوم هو أن يكون هذا القرار الأخير مدخلاً لإبدال مزدوج يطال، من جهة، تقييم الأمور التي تعرض لنا في حياتنا، ومن جهة أخرى، طبيعة فهل نقول وداعاً لتكريم سياسيّين وعسكريّين واحدي البُعد وشديدي الاعتماد على القهر. تكريم هؤلاء يدلّ إلى طباع العبيد وأخلاقهم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد