: آخر تحديث

حين لا نتفق على المعنى

2
2
3

في عالم تموج فيه المصطلحات والشعارات، كثيراً ما تنزلق المعاني من أيدي أصحابها، فتستقر في قوالب مشوَّهة، تبتعد شيئاً فشيئاً عن جوهرها الأول، ففي علاقاتنا اليومية، نتحدث كثيراً، نستخدم العبارات نفسها، ونظن أننا نفهم بعضنا. نقول: «أنا أحبك»، «أنا مشغول»، «ليس لديّ وقت». لكنّ المعاني التي نضمرها خلف هذه الكلمات تختلف من شخص إلى آخر. ما يبدو واضحاً على السطح، يُخفي تحته رواسبَ من تجاربَ شخصيةٍ وتربويةٍ وبيئيةٍ وحتى ندوبٍ عاطفية قديمة. فالخلاف لا يبدأ بالصوت المرتفع، بل باختلاف المعنى. كلمة «الحب»، مثلاً، قد تعني لأحدهم الالتزام والاحتواء، بينما تعني لآخر الشغف المؤقت أو الغيرة المفرطة. «الاحترام» عند بعضهم هو الحفاظ على الخصوصية، وعند آخرين هو المشاركة في كل التفاصيل. و«النجاح» قد يُختصر في المنصب لدى بعضهم، ويُقاس بالرضا والمعنى العميق لدى غيرهم. نحن نحب، ونثق، ونعتذر، ونغضب، ونغادر... بكلمات، لكن الكلمات لا تحمل في قلوب الجميع المعنى ذاته.«أحبك» ليست كلمة واحدة، بل احتمالٌ لعشرات المعاني، و«أنا مشغول» قد تكون اعتذاراً مهذباً، أو انسحاباً صامتاً، حتى «تمام» الصغيرة، قد تُخفي رضا، أو تعباً، أو لا مبالاة. نتحدث كثيراً... لكننا لا نُعرّف. نظن أن الآخر سيفهمنا كما نحن، لا كما هو. ولهذا تنهار علاقات، وتُغلق أبواب، وتُترك رسائل دون رد... ليس لأننا لا نملك اللغة، بل لأننا لم نستخدمها بصدق التعريف. إليك مثالاً آخر: «أنا أعتذر» أو «أنا آسف» عند بعضهم هي قمة النضج والاعتراف، وعند آخرين مجرد عبارة تُقال للهروب من مواجهة، بلا نية للإصلاح. المشكلة ليست في اللغة، بل في غموض تفسيرها. نحن نخوض علاقات مثقلة بسوء الفهم لأننا لم نطرح السؤال البسيط والمفصلي: «ماذا تعني هذه الكلمة بالنسبة لك؟» سؤال يكشف المعنى، والقيم التي يتكئ عليها الآخر، ومخاوفه، وحدوده. لسنا مضطرين لتوحيد المعاني، لكننا مطالبون بتوضيحها. أن نقول: «حين أقول هذا، فأنا أقصد كذا». بهذا، نقلل مساحة سوء الفهم، ونمنح الفهم الحقيقي فرصة للظهور... الفهم الذي لا يفرض الاتفاق، لكنه يصنع الاحترام، ويقلل الخذلان.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد