منيرة أحمد الغامدي
وسط هذا التراكم الكثيف المخيف من الدماء والمفاوضات ومن الخيبات والقرارات الأممية يطفو «حلّ الدولتين» كاحتمالٍ لا يزال يقاوم التآكل وكأنه ليس مشروعًا سياسيًا فقط بل تمرينًا أخلاقيًا على الاعتراف المتبادل واحترام وجع الآخر دون انتقاص من وجع الذات وهو عودة إلى منطق الإنسان لا منطق الغلبة والغابة.
على تلال فلسطين تقف أشجار الزيتون كشهود لا يهرمون، ليست مجرد زراعة بل كرامةٌ تنبت في الحقول ووصية تظلّ خضراء رغم الاحتراق، وجذور تغوص في قرونٍ من الصبر.
غصن الزيتون لم يعد رمزًا تقليديًا للسلام، بل شاهد على مقاومة لا ترفع صوتها بالسلاح فقط بل بالأمل والزرع والبقاء.
ولهذا فإن حلّ الدولتين حين يُطرح لا يكون مجرد اتفاق سياسي بل اختبار نضجٍ أخلاقي للطرفين وللعالم، وهو اختبار يُسائلنا جميعًا: هل نستطيع أن نُقيم سلامًا لا يشبه الهزيمة وعدالة لا تُبنى على إنكار وتاريخًا لا يُكتَب بل يُعاش؟
ليست عبارة «السعودية الأخت الكبرى» مجازًا سياسيًا ولا لقبًا مجاملًا، بل توصيفًا لحقيقة عرفتها المنطقة عبر أجيال. فالأخت الكبرى لا تُفرّق ولا تفرض لكنها تتقدّم حين يصمت الآخرون وتحمل عن إخوتها حين تُثقِلهم الأعباء. السعودية التي لا تساوي بين الجلاد والضحية لكنها تسعى لترميم الجميع دون أن تُلغي وجع أحد.
منذ أن كانت فلسطين جرحًا مفتوحًا في الجسد العربي، كانت السعودية قلبًا نابضًا لهذا الجرح ولم تكتفِ بالمواقف بل غذّت القضية بحبر الخطابات وبدموع الشعوب وبذهب نسائها حين تبرّعن في زمنٍ كانت فيه الحليّ أغلى ما تملك الأسرة، وحتى الطلاب وهم على مقاعد الدراسة كانوا يخصصون ريالا لفلسطين.
واليوم تحت قيادة وحكمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير الهمام محمد بن سلمان تستمر المملكة في موقعها الأخلاقي والدولي مدافعة عن حلّ عادل لا يُقصي أحدًا ولا يُسكت أحدًا.
ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لم ينظر إلى حلّ الدولتين كجزء من توازن سياسي فحسب بل كرؤية حضارية شاملة. في رؤيته السلام ليس نهاية الصراع فقط بل بداية الازدهار وهو ترجمة للأمن العالمي وهو استثمار وكرامة للجميع.
في يوليو 2025 وفي مؤتمر نيويورك الأخير لم تكن السعودية طرفًا حاضرًا فقط بل قائدة في الرؤية وفاعلة ورائدة في تحديد المخرجات. بدعوة من السعودية وفرنسا شهدت نيويورك انعقاد أهم مؤتمر دولي لدعم حلّ الدولتين وأُطلق فيه «إعلان نيويورك» الذي وضع خطوات تنفيذية عملية بجدول زمني ملزم لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
السعودية لم تطرح هذه الرؤية من باب التفاعل مع الحدث بل من باب قيادة المشهد فقد تحوّلت من داعم تاريخي للقضية إلى صانع عملي لمسارات تنفيذها رافعة غصن الزيتون من مؤتمرات البيان إلى حقول التفعيل. الرؤية السعودية قوبلت بتأييد عالمي دولي كبير مثل ايرلندا وألمانيا وفرنسا وكندا ومالطا وأعلنت العديد من الدول اعترافها بدولة فلسطين.
ولكن ومهما بلغ صدق النوايا الدولية وعلو أصوات الحلفاء يبقى السلام الحقيقي في فلسطين مرهونًا باتحاد الفلسطينيين أنفسهم.
لا سلام يُفرض من الخارج ولا دولة تُبنى على انقسام فحين تختلف القيادات وتتشرذم الفصائل ويُغيب صوت الشعب في زوايا الصراع الداخلي يصبح الطريق إلى الدولة المستقلة أطول مما ينبغي. الوحدة ليست ترفًا سياسيًا بل شرطٌ أخلاقي وواقعي لأي حلمٍ بالحرية والسيادة، ولهذا فإن أي جهد دولي مهما بلغ اتساعه يجب أن يُلاقي من الداخل الفلسطيني وحدة موقف وشجاعة قرار وإرادة حياة.
لسنا نُنادِي بحلّ الدولتين لأننا نبحث عن حلٍّ سياسي فحسب بل لأننا نرغب في السلام للجميع بما فيه سلامنا وسلمنا الوطني. نريده سلامًا لا يقوم على أنقاض الآخرين ولا يُنهي صراعًا ليبدأ آخر في النفوس.
نريده سلامًا يحفظ كرامة الفلسطيني دون أن يُقصي الآخر ويفتح للمنطقة أبواب الحياة لا جدران السجون وتبادل الاسرى في أحسن الأحوال. نريده لأجل الأطفال الذين كبروا في الخوف ولأجل الحقول التي سُقيت بالدم ولأجل المدن التي تتوق لصوت الناي لا صوت الصاروخ.
نريده لأننا نؤمن أن السلام ليس ترفًا سياسيًا بل حقٌ إنساني لكل من وُلد على هذه الأرض التي تتسع لعيش الجميع ونريده لأنه لا مستقبل في الشرق ما لم نجد طريقة نتشارك بها الغد دون أن نُفرّط بالأمس.