سارا القرني
تعيش منصات التواصل الاجتماعي اليوم حالة غير مسبوقة من التشوّه في الوعي الجمعي، حيث تحوّلت الشهرة من مساحة للإبداع والتأثير إلى ساحة صراع، ومحاولة محمومة لفرض الذات على حساب الحقيقة والقيم.
لقد انقسم المجتمع الرقمي إلى مجموعات تتباين في أهدافها، فمنها من تشغل نفسها بنقل المعرفة والوعي، ومنها من جعلت من التشهير والهجوم وتصيّد الأخطاء مادة يومية، تُبنى عليها جماهيريتها وتنتفخ بها صورتها أمام المتابعين.
الأخطر من ذلك هو تلك الفئة التي تتعامل مع الجمهور كأداة، فتشكِّل وعيه بطرق ملتوية، وتُلبسه قناعات ليست قناعاته، حتى بات بعض الناس ينظرون للعالم من خلال عدسات مشوَّهة صُنعت لهم بعناية، لا تعكس الواقع، بل تعكس مصالح صانعيها.
وهنا يبدأ الانحدار الحقيقي.. حين تتقدَّم الأصوات العالية على الأصوات العاقلة، ويتصدَّر المشهد من لا يملك قيمة معرفية أو فكرية، بينما يتراجع أهل الخبرة لأنهم لا يجيدون الصراخ ولا يتقنون العروض الزائفة.
لقد أصبحت الشهرة -في كثير من الحالات- لا تستند على إنجاز، بل على قدرة صاحبها على خلق ضجيج أكبر، أو إثارة مشكلات أكثر، أو افتعال مواقف تُسهم في زيادة انتشاره ولو على حساب الآخرين.
هذا التشوّه لا يضر الأفراد فقط، بل يضر المجتمع بأكمله. فالأجيال الجديدة تتلقى صورة مغلوطة عن النجاح، وترى أن الطريق الأسرع هو الصعود على أكتاف الآخرين، أو عبر ادعاء البطولة الوهمية في معارك لا تليق ولا تُثمر.
إن مسؤولية الإعلام -بمؤسساته كافة- أصبحت اليوم أكبر. فمن الواجب ألا تُمنح المنصات لمن لا يملكون قيمة حقيقية، ولا يجوز رفع من لا يمثّل الفكر والثقافة بدعوى «إعطائهم فرصة»، بينما يُهمل من أفنى عمره في بناء معرفة راسخة وصوت مسؤول.
إن إصلاح الوعي يبدأ من إعادة ترتيب المشهد، وتقديم القدوة الحقيقية، ومحاسبة من يضلل الجمهور مهما كان حجم متابعيه، لأن الشهرة ليست معيارًا، بل المعيار الحقيقي هو أثرها.. وهل تبني أم تهدم؟
ويبقى السؤال الأعمق: هل نريد جيلًا واعيًا؟ أم جيلًا مُستهلَكًا في زيف الشهرة؟
الجواب يبدأ من هنا.. من وضع الحدود، ومن قول الحقيقة كما هي، ومن رفض أن يتحوّل المجتمع إلى مسرحٍ كبيرٍ يتقدم فيه الممثلون، ويتوارى عنه المفكرون.

