عبدالعزيز الكندري
قبل سنوات عدة، قام أحد الأثرياء ببيع شركته التقنية بأكثر من 300 مليون دولار، وبعد أخذه المبلغ توقّع البعض أنه سيشتري أموراً رفاهية له ولكنه لم يشترِ الكندي مارسيل لابرون، يختاً ولا قصراً، ولكنه أنفق ملايين عدة لبناء قرية صغيرة فريدة في مدينة فريدريكتون اسمها: «12 Neighbours» (اثنا عشر جاراً).
والقرية الفريدة من نوعها تتكوّن من 99 منزلاً صغيراً مجهزاً بالكامل: مطبخ، حمام، سرير، أثاث، وألواح شمسية، بالإضافة إلى كهرباء ومياه وإنترنت مجانية، ولكن الأهم أنه أنشأ مركزاً للتدريب والعمل يحتوي على مقهى وورشة طباعة حريرية يديرها السكان أنفسهم، ليحولوا أنفسهم من مشردين إلى منتجين وجيران حقيقيين يعيشون بكرامة. ويقول لابرون: «لم أرد أن أعطيهم سقفاً فقط، أردت أن أعطيهم بداية جديدة».
وفي المقابل نرى كثيراً من الأثرياء المسلمين ينفقون الملايين على أمور ثانوية وشراء بعض الحيوانات بمبالغ فلكية من أجل الصيت، وبعضهم ينفق الملايين على حفلات باذخة وسيارات فارهة، بينما الفقراء في أرجاء مختلف دول العالم يبحثون عن لقمة العيش، بل احتياجاتنا الأساسية بالنسبة لهم أحلام.
ولدينا العديد من الأثرياء الذين يستحقون أن نضع المجاهر الفاحصة على حياتهم ونخرجهم ليكونوا قدوات مثل عثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف، وحين طلب النبي صلى الله عليه وسلم، تجهيز جيش العُسرة، لبّى نداء النبي في غزوة تبوك التي كانت في وقت عُسر، وقدم أموالاً وبعيراً وخيولاً ومتاعاً للجيش حتى اكتمل، فقال النبي: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم». ودعا له النبي: دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة والرضا، وقال:«اللهم اغفر لعثمان وارض عنه» بعد كل مرة يتبرع فيها، وختمها بقوله: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم».
وقدِم عبدالرحمن بن عوف، إلى المدينة، آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وكان سعد من أثرياء المدينة، فقال لعبدالرحمن: «إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم لك نصف مالي». لكن عبدالرحمن أبى وقال: «بارك الله لك في مالك، لكن دلني على السوق». ثم خرج إلى سوق بني قينقاع فجاء بشيء من سمن وأقط، فباع واشترى فربح.
وحينما سُئل عن سبب ربحه الكثير، ونجاح تجارته قال إنه لم يرد ربحاً قط، أي مهما كان هذا الربح قليلاً من وجهة نظر التجار، إلا أنه لم يرده، وكان يستغل الفرص. فبدأ في سوق المدينة بشيء يسير فبارك الله له، حتى أصبح من أغنى أغنياء الصحابة. وهذا يدل على أن الفرصة الصغيرة اليوم، قد تفتح لك أبواباً لن تتخيلها غداً، فلا تستهن بربح بسيط أو خطوة متواضعة.
لو قام كل ملياردير بالصدقة والتبرّع بـ5 بالمئة من ثروته لمشاريع تخدم الفقراء والمسلمين، لتحوّلت العديد من بلدان المسلمين إلى نموذج يُحتذى به بدلاً من الاستعراض والبذخ، ولأن الصدقة من أسباب نجاح تجارة عبدالرحمن بن عوف، حيث اشتهر عبدالرحمن بن عوف، رضي الله عنه، بالكرم والجود، وكان كثير الإنفاق في سبيل الله. ورُوي أنه باع أرضاً بأربعين ألفاً وأنفقها على فقراء المسلمين، وأمهات المؤمنين.
وقال ابن المبارك: أنبأنا معمر، عن الزهري، قال: تصدق ابن عوف في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، وحمل على خمس مئة فرس في سبيل الله، ثم حمل على خمس مئة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة.
والحياة التجارية لعبدالرحمن بن عوف، جمعت بين الورع والفطنة، والصدقة والكسب الحلال، والصدق والذكاء التجاري، ولم يخشَ الخسارة أو الإنفاق يوماً. ومن أجمل ما قيل عن هذا التاجر الصادق الصدوق:«أهل المدينة جميعاً شركاء لابن عوف في ماله، ثُلثٌ يقرضهم، وثُلثٌ يقضي عنهم ديونهم، وثلثٌ يصِلهم ويُعطيهم».

