: آخر تحديث

الصراعات وفقه الوساطة.. «طبعة ترامبية» منقحة!

2
2
2

محمد خالد الأزعر

في معالجاتهم النظرية لوسائل إيجاد الحلول والتسويات، التي يضطلع بها طرف ثالث أو أكثر، بين فرقاء أزمة دولية ما، يميّز الفقهاء بين الوساطة والتحكيم والتقاضي والتوفيق بتقريب وجهات النظر.. هذا علاوة على حث المتنازعين على التفاوض بالأصالة وإن تعذر ذلك فبالوكالة، أو مساعدتهم على الفصل في القضية موضع الخلاف، برفعها إلى المنظمات الإقليمية أو الأممية ذات الصلة. ولا تغيب عن هذه المعالجات ملاحظة أن بعض الأزمات، عرفت ارتقاء الطرف الثالث بمداخلته إلى مرتبة التهديد باستخدام القوة، أو استخدامها بالفعل، لإجبار أحد المتنازعين على التخلي عن سياسات أو مواقف بعينها.

ما يلفت النظر، عطفاً على هذه الخلفية، أن المداخلات والحراكات الدبلوماسية وغير الدبلوماسية الأمريكية، على خطوط معظم الأزمات والصراعات الدولية الساخنة، لا سيما في عهد الرئيس ترامب، لا تعمل وفق أداة واحدة من هذه الأدوات.. بل وتكاد تخلط واقعياً، وأحياناً تتقافز وتتنقل، بينها جميعاً، حتى ليصعب على المتابع تحديد دورها على وجه الدقة!

للوهلة الأولى يبدو ترامب، مثلاً، وكأنه يمارس دور الوسيط لتسوية الأزمة الأوكرانية.. غير أن هذا الانطباع يشحب وربما يزول تماماً، لصالح الاعتقاد بأن الرجل يتجاوز المقتضيات أو الاستحقاقات المنوطة عادة بالوسيط، إلى ما يشبه «الوكيل» المفاوض، مرة بالإنابة عن الأوكرانيين وأخرى عن الروس، حتى من دون أن يكون مفوضاً صراحة بهذه الوكالة.

من تجليات هذه المفارقة، تلك العروض والمقترحات التي قدمها ترامب في قمة آلاسكا مع الرئيس الروسي بوتين في أغسطس الماضي، والتي مازال يداوم على عرضها مع بعض التعديلات، كما هو الحال في خطته العتيدة الآن للسلام، المكونة من 28 بنداً؛ القابلة للتطوير والمراجعة بالزيادة والنقصان. يحدث ذلك رغم غضب الطرف الأوكراني ومن ورائه داعموه الأوروبيون، على اعتبار أن المقترحات والخطط الأمريكية لا تستجيب لمطالبهم، وتوشك أن تميل بلا مواربة للجانب الروسي.

تصرفات من هذا القبيل توحي بأن ترامب يقارب هذه المسألة، وهو مشدود إلى رأيه بأن أوكرانيا لن تنتصر في نهاية المطاف.. وهذا موقف يجافي منطق الوساطة؛ الذي يفترض الحياد الكامل بين المتخاصمين وتنحية رؤى الوسيط وتقديراته، وربما مصالحه الذاتية، جانباً.

وبشيء من المبالغة، قد نذهب إلى أن سيد البيت الأبيض، يمزج أيضاً في سياسته الأوكرانية، بين دوري الوسيط والوكيل الإجباري وبين دوري الوصي الضابط لإيقاع الحرب راهناً، والضامن لعملية السلام لاحقاً. أما الوصي، فلأنه لا يكف عن محاولة تقييد طلاقة قدرات موسكو باستمرار العقوبات المفروضة عليها، والتلويح بجهوزية بلاده لسباق التسلح والردع النووي، رداً على تلميحاتها بهذا الخصوص من جهة.. وتقييد يد أوكرانيا بعدم إمدادها بالسلاح إلا في نطاق مديات هجومية ودفاعية محسوبة، وإلزامها بأثمان هذا المدد، ورفض قبولها عضواً في الناتو من جهة أخرى.. وأما الضامن، فلأنه يرشح نفسه لرئاسة «مجلس السلام في أوكرانيا»، حال مرور خطته.

ومع ما تعبر عنه سياسة ترامب الأوكرانية من طاقة التوليف غير التقليدي، والمزج بين كثير من أدوات الطرف الثالث، إلا أن سياسته ومواقفه بين يدي الحرب على غزة، تعرض نموذجاً لا يبارى في نصاعته، لهذه الطاقة. ففي إطار هذا النموذج، محظوظ جداً من يستطيع توصيف دور الرئيس الأمريكي، وهو يراوح جيئة وذهاباً بين أدوار الوسيط والوكيل والمحكم والقاضي والموفق والضامن وشريك الحرب وداعية السلام !.. وربما تعز هنا، والحال كذلك، معرفة ما إن كان الرجل، ودولته من خلفه، طرفاً أصيلاً أم مجرد طرف ثالث في القضية؟!

نحن في كل حال إزاء قيادة تتمدد وتضع قدمها وتعبر عن نفوذها في أكثر المسائل الأوروبية والشرق أوسطية، وقد نقول العالمية، سخونة وتفجراً. ومن المدهش حقاً، أن معظم، حتى لا نقول كل، الضالعين والمنغمسين في هذه المسائل، بشكل مباشر أو غير مباشر، يقعون، بنسب متفاوتة في موضع القبول بهذه الحالة الاستثنائية.. ولا يملك، حتى المتأذين منهم أو الممتعضين، الاعتراض الصارم عليها، حتى وإن تعاكس أداؤها أحياناً مع بعض مصالحهم! وفي ذلك عبرة لمن أراد استكناه معنى القوة العظمى وسطوتها في المعترك الدولي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد