في مدينة أنهكها الضجيج والصمت، في آنٍ معاً، تعود فكرة مترو دمشق لتطرق الأبواب من جديد. ليس كحلم مؤجل أو طموح خافت، بل كمشروع ينبض هذه المرة بإرادة إقليمية معلنة، وبدعم إماراتي يُراد له أن يكون أكثر من مجرد مساهمة مالية. إنه شريان اقتصادي واستراتيجي يُبعث من تحت الركام، ليعيد بعض التوازن إلى قلب العاصمة السورية.
لقد مرت أربعة عقود منذ أن وُلد المشروع ثم جُمِّد. واليوم، وسط التبدلات السياسية والإقليمية، يعود الحديث عنه بلغة جديدة: لغة الجدوى والتصميم. فحين اجتمع وزير النقل السوري ومحافظ دمشق مع وفد من شركة "الوطنية للاستثمار" الإماراتية، لم يكن اللقاء عادياً. كان أقرب إلى إعلان نوايا لإحياء ما توقف طويلاً، وإعادة نبض لعاصمة يرهقها الازدحام، وتخنقها الاختناقات اليومية.
المترو، الذي سيمتد من المعضمية حتى القابون، على طول 16.5 كيلومتراً، ويتضمن 17 محطة، ليس مجرد خط تحت الأرض. بل هو خط باتجاهين: نحو التنمية من جهة، ونحو الرمزية السياسية والاقتصادية من جهة أخرى. فتعاون دمشق مع الشارقة يعكس أكثر من مجرد شراكة تجارية. إنه رسالة إقليمية مفادها أن زمن العزلة يتآكل، وأن بوابات التنمية يمكن أن تُفتح من بوابة النقل.
في جوهر المشروع، تتقاطع الحسابات الإستراتيجية مع الاحتياجات اليومية. فالعاصمة التي باتت تختنق من الزحام المروري، تحتاج إلى متنفس حضري يعيد إليها شيئاً من الاتزان، لا سيما أن المترو يتوقع أن يخدم قرابة 840 ألف راكب يومياً، بزمن رحلة لا يتجاوز نصف ساعة، وسرعة قصوى تصل إلى 80 كيلومتراً في الساعة. كل ذلك في منظومة نقل حديثة، آمنة، تُسهم في خفض التلوث والانبعاثات، وتحسّن جودة الحياة.
لكن الأرقام، على أهميتها، ليست وحدها ما يعطي المشروع وزنه. فالتعاون الإماراتي لا يقتصر على التمويل، بل يشمل أيضاً الخبرة الفنية والتقنية، ما يمنح المشروع دفعة نوعية ويقلل من الفجوة التقنية التي خلّفتها سنوات الحرب والعقوبات. وفي وقت قُدرت فيه التكلفة الإجمالية للمشروع بنحو 1.2 مليار يورو، تصبح الضمانات الخارجية عاملاً حاسماً لاستمرار التنفيذ، الذي يُتوقع أن يمتد بين خمس إلى سبع سنوات.
اللافت أن الحديث عن المشروع لا يقتصر على هندسته أو تمويله، بل يمتد إلى آثاره المتعددة: من توفير فرص عمل واسعة للسوريين وتدريب الكوادر المحلية، إلى تنشيط الحركة الاقتصادية والتجارية في المناطق التي يمر بها الخط. فالمترو ليس فقط وسيلة نقل، بل رافعة تنموية تمتد آثارها من الفرد إلى المدينة.
وبالرغم من كل هذه الزوايا المضيئة، تبقى التحديات قائمة. فالعقوبات، والبيروقراطية، وضعف البنية التحتية، جميعها عوامل قد تُعيق التنفيذ إذا لم تتوفر الإرادة السياسية والإدارية الصلبة. غير أن التزام الجانبين ـ السوري والإماراتي ـ بما سُمّي "مذكرة تفاهم استراتيجية"، يوحي بأن الأمر تجاوز حدود التصريحات، واقترب من الدخول في حيز الإنجاز الفعلي.
في هذا السياق، يمكن النظر إلى مترو دمشق كأحد عناوين التحول في السياسة الإقليمية تجاه سوريا. تحول يبتعد عن الصيغ الرمزية والخطابات الإنشائية، ويدخل مباشرة في العمق: الاقتصاد، البنية التحتية، الحياة اليومية للمواطن.
وربما الأهم من كل ذلك، أن هذا المشروع يعيد طرح سؤال أوسع: هل تكون التنمية هي السبيل الأصدق لعودة سوريا إلى قلب المنطقة؟ وهل تصبح محطات المترو الجديدة هي بوابة العودة إلى الإعمار الأوسع، والتنمية الأعمق، بعد سنوات من الركام؟
في مدينة تعرف جيداً معنى التأجيل، يجيء المترو هذه المرة لا كترف حضري، بل كضرورة تاريخية.