في الخامس عشر من شهر آب (أغسطس) عام 2010، نعى الديوان الملكي السعودي معالي وزير العمل الدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي، وقد أحدث رحيله دويًّا مثلما يحدثه رحيل العظماء والأساطير في التاريخ، ولا شك بأننا في المملكة العربية السعودية قد نالنا من الأسى على رحيله أكثر مما نال غيرنا، فما قدّمه رحمه الله طيلة عمله وزيرًا وسفيرًا في أكثر من وزارة وسفارة جعل منه بالنسبة إلىنا كسعوديين أمثولة حيّة للمسؤول الصادق القوي الأمين. ونحن نطوي الذكرى الخامسة عشرة لرحيله، أتفهّم بأن من تعامل معه من قريب أو بعيد ولمس مدى إنسانيته قد آلمه رحيله، ولكن أن يشعر بذات الألم من لم يسبق له مقابلته أو التعامل معه، كحال الكثيرين ومنهم كاتب هذه السطور! فذلك لا يحدث إلا عندما يكون الراحل أسطورة بمعنى الكلمة. لقد شكّل القصيبي الذي وُلد لأبٍ نجديّ وأمّ حجازية في الهُفُوف – المركز الحضري الرئيس لواحة الأحساء شرقي المملكة – تنوّعًا جميلاً كجمال تنوّع شبه القارة السعودية، مملكتنا الحبيبة مترامية الأطراف. كما ساهمت نشأته في البحرين ثم دراسته الجامعية في القاهرة، وبعد ذلك نيله الماجستير من الولايات المتحدة ثم الدكتوراه من بريطانيا، في تكوين شخصيته المميزة بالفطرة مع تراكم التجارب المختلفة التي مرّ بها.
في العام 2004، أجرت المذيعة اللبنانية الكبيرة نيكول تنوري لقاءً تلفزيونيًا مع القصيبي، وفي أحد محاور اللقاء الذي امتدّ لأكثر من حلقة، لم يُخف شغفه بالطبخ لو كان يجد الوقت الكافي. سألته تنوري: ألا تشعر بأن الرجل العربي عندما يصرّح بمحبته للطبخ يقلل ذلك من رجولته؟! فأجاب إجابة رائعة لا تخلو من أسلوبه الساخر الفاخر عندما قال: "الرجل العربي عنده مشاكل كثيرة، فهو يعتقد أن رجولته مرتبطة بشواربه أو عصاه أو هل الناس يخافون منه أو لا يخافون منه، أو أن رجولته مرتبطة بكونه لا يتحدث مع أولاده، أو الذي يرشّ عليه ماء يرش عليه دم! هذه عُقد أكل عليها الدهر وشرب. مقياس الرجولة هو الشعور بالمسؤولية... هل الإنسان المُهمل لأولاده وزوجته وعمله وعائلته، هل هذا أستطيع أن أسمّيه رجلاً؟! بقدر ما يكون الرجل عنده التزام نحو عمله ونحو أهله وأصدقائه ونحو الإنسانية، بقدر ما يصبح رجلاً. معيار الرجولة في نظري مرتبط بالالتزام والمسؤوليَّة".
وعندما سألته تنوري عن الاتهامات التي وُجهت له بأنه هاجم العادات والتقاليد في رواية "أبو شلاخ البرمائي"، أجاب الدكتور القصيبي قائلًا: "كثير من عاداتنا وتقاليدنا أنا مستعد للموت في سبيل الدفاع عنها، كالتقاليد الأسرية وتقاليد الولاء والتقاليد الدينية ونصرة الجار. منظومة تقاليد جيدة جدًا ويجب أن ندافع عنها، وهي التي في النهاية تشكّل هويّتنا. بالإضافة إلى ذلك، هناك تقاليد وعادات تسلّلت إلينا في غفلة من الزمن، بالرغم من ما يقوله لنا الإسلام، وبالرغم من التقاليد الأصيلة النقيّة، هذه يجب أن نحاربها؛ كتصنيف الناس على أساس اجتماعي أو قبلي".
وفي موضع آخر من البرنامج، قالت الأستاذة مشيرة عمران – سكرتيرة القصيبي في سفارة خادم الحرمين الشريفين في لندن – إنها لن تزيد على وصفه بأكثر من كلمة "إنسان"، لأنها "كلمة جامعة وشاملة لا يقدّرها سوى الإنسان الحقيقي"، مستشهدة بمثال بسيط يحدث يوميًا في السفارة، حيث يتعامل الدكتور القصيبي مع جميع الموظفين منذ أن يقابل حارس باب السفارة حتى منصب وزير مفوّض بأسلوب واحد، ويناديهم بطريقة واحدة لا تختلف بحسب شخصية المُنادى، بل كانت كلمة واحدة هي "الأخ الزميل" أو "الأخت الزميلة"، فالجميع كانوا متساوين لديه. أما أحد أسرار محبة صغار الموظفين له، فقد ذكره الراحل الكبير بنفسه في كتابه "حياة في الإدارة"، عندما قال: "كنت أتابع بنفسي الترقيات، وأستطيع القول بأنه لم يكن هناك موظف منسيّ واحد، وكان كل موظف يستكمل شروط الترقية يحصل عليها تلقائيًا، كما كان كل موظف يُرقّى يستلم رسالة تهنئة شخصية منّي". يا لعظمة ذلك الرجل الراقي واهتمامه بكل التفاصيل الإنسانية الذوقية، بالرغم من كثرة مسؤولياته، عسى أن تنتقل هذه العدوى القصيبية الحميدة لكل مسؤول في برجٍ عاجيّ يظن – ويا لسوء ما ظنّ – بأنه خالدٌ مُخلّد في كرسيّه.