في سوريا ما بعد الأسد، لم يكن المشهد كما يتمناه البعض من أنصار الانتقال السلمي أو دعاة الاستقرار. فالصراع لا ينتهي بسقوط رأس النظام، بل يعيد إنتاج نفسه بأدوات مختلفة، أشد خطراً وأعمق أثراً. فبدلاً من الدبابات والقذائف، تتقدم جيوش غير مرئية إلى الساحة: جيوش إلكترونية مدربة، تعرف كيف تشعل الفتن الطائفية وتعيد تدوير الانقسامات التاريخية لتفجير المجتمع السوري من الداخل.
الحرب الحالية في سوريا يبدو أنها سيبرانية بامتياز، حيث تتحول الشاشات إلى ميادين، والكلمات إلى قذائف، والمعلومة المفبركة إلى أداة تدمير أشد فتكاً من أي سلاح تقليدي. عديد القوى الإقليمية والدولية لا تنتظر بناء دولة سورية جديدة، بل تستعد كل منها لإعادة صياغة نفوذها من خلال التلاعب بالسرديات الطائفية. إيران التي بنت عمقها الاستراتيجي في سوريا على أساس مذهبي، لن تتراجع بسهولة، بل ستفعّل خلاياها السيبرانية لإبقاء حالة التوتر الطائفي مشتعلة، مستخدمة خطاب الخوف من ما تسميه“السلفية التكفيرية” و" الجهاديين " كمبرر لاستمرار نفوذها.
آلاف الحسابات تظهر لتتحدث عن المجازر في مواكبة للسردية الاسرائيلية وتعيد نشر روايات التضحيات والضحايا، وتتهم ألآخر بأنه امتداد للقاعدة أو لداعش، في تكرار مستنسخ لخطاب النظام نفسه. وهذا غير مستغرب في ظل مقاومة جيوب موالية للأسد للتغيير.
في المقابل تنشط جيوش إلكترونية اخرى مرتبطة بإسرائيل لتكريس سردية مضادة، تظهر الشيعة كأداة قمع إيرانية حيناً، وتبرز الدور الدرزي موحدة واحدة غير وطنية!، وتبث الشعور بأن المعركة لم تنته بسقوط الأسد بل بدأت الآن.
ولن ينسى السوريون ان اول ضربة جوية اسرائيلية بعد سقوط النظام السابق بساعات كانت لمقر الجيش السوري الالكتروني في دمشق، وكأنه كان مفتاح اللعبة ومصنع الحرب النفسية!
تكنولوجيا الحرب السيبرانية تسمح بتضخيم الكراهية وتحريك مشاعر الضحايا بطريقة تخدم مشاريع الاستقطاب، فتُختزل المأساة السورية في صراع بين مكونات دينية ومذهبية، يُراد له أن يكون مستداماً.
الولايات المتحدة التي تدرك حجم هشاشة التوازن الطائفي، تدخل على خط هذه المعركة بنهج مختلف: ليست مع التصعيد المباشر، بل مع الضبط الذكي للصراعات، بحيث تبقى متحكمة بمفاتيح التفجير والتهدئة، تبعاً لمصالحها.
وفي رصد قامت به احد محطات التلفزة العربية تم إحصاء 866 الف حساب في التواصل الاجتماعي تعمل على تأجيج الازمة السورية 40 بالمئة تعمل من الولايات المتحدة. وفي ازمة السويداء تم رصد 3 ملايين تغريدة مليئة بالاتهامات ضد النظام السوري الجديد من حسابات خارج سوريا و من دول عدة اجنبية واقليمية.
تقود إسرائيل على مايبدو عبر وكلائها او من خلال الوحدة 8200 المتخصصة بالحرب السبرانية المعركة عبر إنتاج فيديوهات وقصص وإشاعات، فتلعب لعبة أكثر خفاءً، تزرع في بيئة المعارضة السابقة روايات ثقافية وحقوقية تُستغل لإثارة الانقسامات بين الإسلاميين والعلمانيين، وبين المعتدلين والراديكاليين، بين الجيل الثوري والجيل التعبوي، بين الأكثرية والأقليات ما يؤدي إلى صدامات داخلية تفكك أي مشروع سياسي جامع قبل أن يتشكل. كل هذه الأطراف تعتمد أدوات معقدة: حسابات وهمية تتقن اللهجات المحلية، مقاطع فيديو مفبركة بدقة، تغريدات تحمل مشاعر مكثفة مدفوعة الثمن، حملات نفسية تمولها أجهزة استخبارات، وصفحات إعلامية تغلف خطابها الطائفي بثوب مدني أو إنساني.
في هذا المشهد، يصبح المواطن السوري العادي أداة دون أن يدري، يتبنى سرديات الغير، ينشر خطابات التحريض، ويسهم دون قصد في معركة لا ناقة له فيها ولا جمل.
أما النخب المعتدلة، فتُستهدف بشكل ممنهج: تُتهم بالعمالة، تُربط بالخارج، تُشوه سيرتها، وتُعزل عن الشارع، ليخلو الفضاء لأصحاب الأصوات المتطرفة والخطابات العنيفة. النتيجة هي إعادة تفكيك المجتمع، لا على أساس المذهب فقط، بل وفق خطوط جديدة: من مع الثورة ومن ضدها، ومن هو علماني ومن هو ديني، من مع النظام الجديد ومن مع التمرد والمواجهة، ومن مع الغرب ومن ضده . كلها خطوط مشتعلة تُغذى بشكل منظم لتُجهض أي محاولة لإنقاذ ما تبقى من سوريا ما بعد الأسد، او ليكون ليس مرحلة بناء، بل ساحة لتصفية الحسابات المؤجلة، ووسيلتها ليست الحرب المسلحة فقط، بل السيطرة على الوعي، على القصة، على اللغة، على من يُعرَّف بالضحية ومن يُصوَّر كجلاد.
من لا يمتلك في هذه اللحظة الحساسة مشروعاً وطنياً رقمياً قادراً على الصمود وكشف هذه الجيوش الإلكترونية ومواجهتها بخطاب عابر للطوائف والمصالح الضيقة، سيكون مجرد لاعب ثانوي في حرب ناعمة يمكن ان تعيد إنتاج الانقسامات والهزائم بشكل أبشع مما مضى.
المشروع الوطني النهضوي ليس مجرد تنمية او اعادة بناء وإرساء بنية تحتية ، بل بناء الإنسان الحديث بالتوافق الوطني والإصلاح السياسي وتحصينه فكرياً ونفسياً من حروب الاغواء ومعارك التظليل وصراعات الهوية والمصالح، والسعي الحثيث إلى العمل على زرع الثقة في نفس المواطن وبمستقبل وطنه وفق استراتيجية مناعة وطنية.