في مثل هذا اليوم، ولدت "المدى" من رحم الحاجة إلى صوتٍ حر، عقلاني، مسؤول، يعبر عن الضمير الوطني العراقي، ويجسد قيم الصحافة الحرة التي طالما سعت إلى بناء وطنٍ يسوده التوافق، ويحفظ توازنات المكونات، ويؤمن بالمواطنة الكاملة لكل فردٍ على أرض العراق. إذ لم تكن الصحافة، في نظر "المدى"، مرآة للوقائع وحدها، بل مرآة للضمير، وراعية لقيم المواطنة، وحارسة للتوازن الوطني. فلم تكن "المدى" مجرد وسيلة إعلام، بل تجسيدًا لمشروع وطني تأسس عن قناعة راسخة: أن لا مخرج للعراق من أزماته المتجذرة إلا بالحوار الصريح، ولا حياة سياسية قابلة للاستمرار إلا بالتفاوض لا بالفرض، وبالعدالة لا بالهيمنة. وأن على جميع مكوناته، من دون استثناء، أن تعي أن التعدد ليس بابًا للفرقة، بل مصدر غنى وقوة. ومن هذا المنطلق، التزمت "المدى" منذ لحظتها الأولى بأن تكون مرآة للتوافق الوطني، لا ساحة للاستقطاب، صوتًا ناطقًا بالضمير الجمعي، وملاذًا للعقل في زمن التباس المعاني.
مرت العملية السياسية في العراق خلال العقدين المنصرمين بمفترقات حادة وتعقيدات متراكبة، تآكلت فيها الأسس التي نهض عليها الدستور، وتراجعت فيها التوافقات التي كانت صمام أمان لوحدة البلاد وتماسكها. لم يعد خافيًا، بعد كل هذه السنوات، أن هنالك شكًا جديًا بل مريرًا، في أن هذه العملية قادرة على إنتاج دولة حديثة بالمعنى المتعارف عليه في الفكر السياسي المعاصر، أي دولة تقوم على احتكار الشرعية، وتكافؤ الفرص، وسيادة القانون، وحماية الحقوق. لقد جربت فيها كل الصيغ المؤقتة، وركبت موجتها أطياف سياسية شتى، غير أن محصلة هذا المسار ظلت قاصرة عن بلوغ الحد الأدنى من شروط الدولة بمعناها المؤسسي. إذ تغولت السلطة التنفيذية على التشريعية، وتفككت منظومة العدالة، وتحولت الدولة إلى مجرد واجهة لسلطة حزبية أو فئوية لا ترى في الكيان السياسي سوى ريعٍ وغنيمة. وفي ظل هذا الانحدار التدريجي، حيث خابت الوعود وتقلصت مساحات الكرامة والحقوق، وقفت "المدى" في موقعها الأخلاقي الثابت: إلى جانب الدولة بمفهومها المؤسسي، لا السلطة بمناوراتها العابرة، مع الجيش الوطني بصفته رمزًا للوحدة والسيادة، لا مع المليشيات المتفلتة من القانون، مع شرعية الدستور، لا مع سطوة السلاح المنفلت أو غلبة الفوضى.
وإن هذا الانحياز للدولة والقانون ليس طارئًا ولا وليد لحظة التأسيس، بل امتدادٌ طبيعي لتاريخٍ عميق في قلب الحركة الوطنية العراقية. فـ"المدى" ليست مجرد ثمرة لولادتها المؤسسية، بل ثمرة سيرة نضالية طويلة، تجذرت في تراب الصحافة العراقية الحرة، وتكونت عبر عقودٍ من الالتزام المهني، والمواقف المبدئية، والانخراط الفعلي في معارك الكلمة والحرية والعدالة. إنها امتداد لذاكرة وطنية، لا مجرد جريدة صدرت في زمنٍ ما.
في زمنٍ اشتدت فيه حدة الاستقطاب الإقليمي، وتقاطعت على أرض العراق سياسات المحاور المتصارعة، لم يعد التهديد يأتي من الخارج فحسب، بل من الداخل أيضًا، من أسلحةٍ نشأت خارج منظومة الدولة، وتنامت بموازاة الجيش، دون أن تأتمر بأوامره أو تخضع لسلطته. هذه الأسلحة، التي لا ترتبط بأي عقيدة وطنية، بل تدار وفق ولاءات لمحاور إقليمية متنازعة، باتت تمثل خطرًا حقيقيًا على الدولة نفسها، لا لأنها أقوى منها، بل لأنها تعمل خارج منطقها، وتستمد شرعيتها من خارج مؤسساتها. لقد أضعف هذا الواقع هيبة الدولة، وقوض احتكارها المشروع للقوة، وجعل من السلاح أداةً للصراع الإقليمي على حساب السيادة الوطنية. وفي مواجهة هذا الخطر البنيوي، ظلت "المدى" تحذر من مغبة التعايش مع قوى موازية تتسلح بلا مسؤولية، ومن ترك القرار الأمني عرضةً لتجاذبات لا علاقة لها بمصالح العراقيين، بل بمصالح من يصطفون خلف المحاور.
كانت "المدى" — ومنذ انبثاقها — حارسة واعية لما تبقى من توازنٍ وطنيٍ هش، مدركةً أن ما سمي بـ"العملية السياسية" لم يكن مشروعًا مثاليًا، بل تسوية اضطرارية ولدت في لحظة عراقية حرجة، من رحم احتلال ودمار، ومن تحت رماد دولة منهارة. ومع ذلك، فقد قامت على مبدأ جوهري لا يمكن تجاوزه: أن لا عراق موحد من دون توازن لمكوناته، ولا دولة قابلة للحياة من دون شراكة حقيقية تحمي الجميع من منطق الغلبة والإقصاء.
لكن هذا التوازن، الذي كان هشًا بطبيعته، لم يمنح الفرصة لينضج، إذ جرى تقويضه مبكرًا عبر نزعة احتكار السلطة، وخرق الاتفاقات التي شكلت الأساس السياسي لبناء الثقة بين الشركاء. ومنذ أن تم حصر القرار السياسي بيد مكون واحد، تحولت مؤسسات الدولة من أدوات تمثيل إلى أدوات هيمنة، ومن ساحات شراكة إلى مراكز نفوذ مغلقة. وهكذا، تراجع المعنى الوطني للمشاركة، وانهار التوازن الذي كان يفترض أن يحمي وحدة البلاد، وتحول مبدأ التوافق من قاعدة تأسيس إلى ذكرى باهتة، يتجاوزها من قرروا أن الدولة غنيمة، لا عقدًا جامعًا.
ولعل المفارقة المؤلمة أن هذه العملية السياسية، رغم ما أغدق عليها من موارد هائلة ودعم دولي غير مسبوق، لم تنجح حتى في ترسيخ ملامح "شبه دولة"، إذ بقيت في كثير من مفاصلها رهينةً لمنطق المحاصصة، والتغول الفئوي، وتفكك الولاءات بين الانتماء للوطن والانصياع لقوى ما وراء الحدود. فلا مؤسسات منتجة للقرار، ولا سياسات تراكمية قابلة للاستمرار، بل مشهد عبثي يتكرر: مؤسسات معطلة، سلطات تتداخل وتتصارع، وولاءات تتوزع على أحزاب وساحات خارجية. وهكذا، غابت الدولة، وغابت حتى "صورتها"، وابتلي الناس بإدارات تفتقر إلى الرؤية والشرعية والكفاءة.
ويعرف كل من له ضمير أن "المدى" لم ترفع يومًا إلا راية الكلمة، ولم تؤمن إلا بأن الدولة وحدها هي المخولة بحمل السلاح وبسط الشرعية، وأن كل سلاح خارج سلطتها إنما هو تهديد للكيان الوطني. كانت، وستبقى، في مواجهة صريحة مع عسكرة الحياة العامة، ترفض بكل وضوح الثنائية الملتبسة التي تسحق المجتمع بين قبضة السلطة والفراغ، وتقف بحزم ضد كل محاولة لزج المؤسسة الأمنية في دهاليز السياسة أو لتفكيك علاقتها العضوية بالمجتمع، تلك العلاقة التي لا تقوم إلا على الثقة، والمهنية، والانتماء للدولة، لا للطوائف والولاءات العابرة.
نحيي في هذا اليوم القارئ الذي رافقنا وساندنا، نحيي الكُتاب والصحفيين الذين منحوا هذه الصحيفة نبضها وكرامتها، ونحيي العراق الذي، رغم جراحه، ما زال يحمل في عمقه حلمًا كبيرًا بوطنٍ حرٍ، عادل، ومتوازن.
وحينما تصاهر الفساد مع المنظومة السياسية، وتناسلت أذرع إعلامية تقتات على المال المشبوه وتسهم في التغطية والتضليل، انفردت المدى بموقف مستقل، إيمانا بأن الصحافة ليست سلعة في سوق النفوذ، بل مسؤولية أخلاقية وان كانت هذه المسؤولية لا تخلو من مخاطر، وانها رسالة لا تستقيم إن لم تجابه التواطؤ والتستر.
لم تكتف المدى باختيار طريق العفة والنزاهة، بل خاضت معركة الكلمة ضد منظومات النهب، وكشفت ملفات فساد كبرى حاولت قوى نافذة طمرها، وواجهت، بشجاعة مهنية، شبكات السرقة المنظمة التي ارتدت لبوس الدولة وتسللت إلى مفاصلها.
نعلم أن ثمن هذا الخيار هو التضييق وربما الاستهداف، لكنها آثرت الوقوف في صف الحقيقة، لا في صف الغنيمة، لأنها ببساطة اختارت أن تبقى على عهدها: صحيفة حرة لا تُشترى، ولا تنكفئ، ولا تنخرط في حفلة الخراب!
كذلك، لم تكن "المدى" في يوم من الأيام على هامش المعركة من أجل الحريات، بل كانت دوما في قلبها، مدافعة عن الديمقراطية بوصفها خيارا لا رجعة فيه، وعن حرية التعبير كحقٍ مقدس لا يخضع للمساومة أو التأويل. لم تكتف برصد الانتهاكات، بل قاد صحفيوها حملات صحفية وثقافية جريئة، واجهت القمع ومحاولات تكميم الأفواه، وفضحت كل أشكال التضييق والانتهاك لحقوق الإنسان. آمنت "المدى" بأن دور الصحافة لا يكتمل ما لم تكن صوتا للمهمشين، ودرعا للمستضعفين، ومرآة لحقائق تُراد لها أن تُطمس.
هذا النهج، الذي تأسس على الشجاعة الأخلاقية والالتزام بالمبدأ، ليس خيارا عابرا ، بل هو جوهر "المدى" وهويتها المتجذرة. وسيبقى كما كان، حجر الزاوية في مسيرتها مهما تغيرت الأزمنة وتبدلت السياقات.
في عيد تأسيسها، تُجدد "المدى" عهدها، لا بوصفه طقسًا احتفاليًا، بل التزامًا متجددًا: التزامًا بالمهنية الصارمة لا بالحياد الزائف الذي يساوي بين الضحية والجلاد، بالوطنية الفاعلة لا بالشعارات الجوفاء التي تستخدم غطاءً للمصالح، بالكلمة الحرة المستقلة لا بالصوت المؤدلج الخاضع للمزاج. وستبقى كما كانت منذ انبثاقها الأول: بيتًا للفكر الحر، منبرًا للحقيقة، ومرآة صادقة تعكس الضمير العراقي في أصفى تجلياته. وفي عيد تأسيسها، لا يسع "المدى" إلا أن تنحني احترامًا لقرائها الأوفياء، أولئك الذين حملوها في وجدانهم لا كصحيفة فحسب، بل كأفقٍ من آفاق الوطن، ومرآة لأحلامه وقلقه. إليهم، إلى من قرأ وناقش وانتقد وساند، إلى من آمن بأن للكلمة وزنًا، وللحقيقة مكانًا، وللثقافة دورًا، نتوجه بتحية امتنان صافية، عميقة، تليق بمن جعلوا من "المدى" بيتًا حيًا للحرية والعقل.
ولعل فيما قاله الجواهري العظيم بيت يليق بـ"المدى" ومسيرتها، إذ يجسد حلمها في أن تكون كما أنشد:
كذلكَ كل ذواتِ الطِماحِ والهـمِ، مخلوقةٌ للذرى
شهِدت بأنكِ مذخورةٌ لأبعـدَ ما في المدى من مدى
وأنكِ سوفَ تدوِي العصور، بما تتركينَ بها من صدى.