: آخر تحديث

نظريات بدّدها الزمن

1
1
1

مع مرور الزمن وتقلّب التجارب، تغيّرت فينا مفاهيم كثيرة. بعضها تهاوى تحت وطأة الواقع، وبعضها الآخر أعاد تشكيل نفسه بهدوء دون أن نشعر. لقد كانت الحياة خير معلّم، حين فشلت بعض النظريات، وتبدّدت القناعات، وصارت الأشياء تُرى من زوايا لم نكن نلتفت إليها من قبل.

كنت أظن – كما ظنّ كثيرون – أن "فاقد الشيء لا يُعطيه"، لكنني حين تمعّنت وأمعنت في التفكير، رأيت كيف أن من فقد الإنصاف والحق قد يغمر غيره به، وكيف أن من عرف مرارة الفقد هو الأقدر على احتواء الآخرين.

أدركت أن الظروف قد تُنبت العطاء، وأن من لم ينل شيئًا قد يصنعه لغيره، لأنه يعرف معنى الاحتياج.

كُنت أظن أن عنوان الكتاب يعبّر عن مضمونه، لكنني تعلّمت أن بعض عناوين الكتب خادعة ومصطنعة، مثل بعض الوجوه والكلمات المأجورة، ومبنيّة على مصلحة، وتُخترق فيها المبادئ. وعلى العكس، كم من محتوى عظيم اختبأ خلف غلاف باهت، وكم من بريق كاذب كان غلافًا لفراغ داخلي. الناس مثل الكتب، لا تُعرف حقيقتهم إلا إذا منحتهم وقتك وقراءتك المتأنية.

وكنت أظن أن "رضا الناس غاية لا تُدرك"، حتى اكتشفت أن رضاهم ليست غاية أصلًا، بل مسعى مرهق يُتعب الروح ويشتّتها. عرفت أن رضا الذات، والصدق مع النفس، هما ما يستحق السعي والطمأنينة.

في أيام مضت، قيل لي: "على قدّ لحافك مدّ رجليك"، فظننته تقييدًا للطموح، حتى فهمت لاحقًا أن بإمكاني شراء لحافٍ أكبر، أو صنع واحد يناسب الطموح. ليس المطلوب أن أُحجم من القدرات لأناسب الواقع، بل أن أوسّع الواقع لأحيا كما أريد.

أما "اليد الواحدة لا تصفّق"، فقد اتضحت لي فيما بعد بأنها عبارة غير منصفة، لأن اليد الواحدة قد لا تصنع ضجيجًا، لكنها تصنع فارقًا: تُربّت على الطموح، وعِنانه وسقفه السماء. وأن اليد الواحدة تكتب فكرة، وتدفع الباب الأول في سلسلة تغييرات طويلة، وأن الموهبة والشغف وما تخطّه اليد الواحدة هو إبداع ويحمل المعنى وجمال الحروف.

وأكثر ما غيّره الزمن في داخلي، هو قناعتي بأن الخيارات ليست محصورة فيما يُعرض عليّ. حين يُخيّرني الناس بين طريقين لا يشبهاني، لا أتردد في شقّ طريق ثالث، أخطّه بنفسي، ولو كان وعرًا في بدايته. فالاختيار لا يجب أن يكون بين السيئ والأسوأ، بل بين الممكن والممكن بصعوبة.

لقد تعلّمت أن المفاهيم ليست نصوصًا جامدة في كتب التربية، بل كائنات حيّة تنمو وتذبل وتُعاد صياغتها مع كل تجربة، وكل لحظة صدق مع الذات.

وفي النهاية، لم أعُد أبحث عن الحقيقة المطلقة في العبارات الجاهزة، بل في التجربة الحيّة. فالزمن يعلّمنا ما لم تعلّمه نظريات التنظير ومثقفو النظرة الدونية إلى الآخرين، والزمن يصحّح لنا الكثير مما ظننّاه مسلّمات.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.