لا يحتاج الأمر إلى أكثر من جولة في أسواق غزة الخاوية، أو نظرة عابرة إلى وجوه الأطفال الذين يبحثون عن فتات الخبز بين أكوام الركام، لمعرفة أن الجوع لم يعد مجرد نتيجة حتمية للحرب، بل تحول إلى سلاح بحد ذاته. فبعد أن سمحت سلطات الاحتلال بدخول شاحنات المساعدات إلى القطاع، لا تزال أزمة الغذاء تتفاقم يومًا بعد يوم، والأسئلة التي تُطرح هنا ليست بريئة: لماذا تستمر المجاعة بالرغم من وصول المساعدات؟ من يتحكم بزمام الأمور خلف الكواليس؟ وهل يمكن لوقف إطلاق النار أن يُنهي هذه الكارثة الإنسانية، أم أن جذور الأزمة أعمق من الحرب ذاتها؟
وفقًا للأمم المتحدة، تدخل غزة يوميًا مئات الشاحنات المحمّلة بالطعام والدواء، لكن هذه الأرقام التي تُروج إعلاميًا كدليل على “التعاون الإنساني” الإسرائيلي لا تعكس الواقع. فالقوافل التي تعبر معبر كرم أبو سالم تخضع لعمليات تفتيش مهينة تُفقدها جزءًا كبيرًا من حمولتها، ناهيك عن أن الاحتلال يمنع دخول مكونات أساسية كالوقود والمواد الطبية الحرجة، مما يعطّل سلسلة التبريد وتوزيع الغذاء. الأكثر إيلامًا أن إسرائيل تتحكم بعقلية العقاب الجماعي بكميات الدقيق والسكر والأرز، بحيث تُبقي السكّان على حافة المجاعة دون موت جماعي يثير العالم.
لكن هل يكفي اتهام الاحتلال وحده؟ الواقع يقول إن هناك أطرافًا أخرى تشارك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في تعميق الأزمة.
هنا، تتجه أصابع الاتهام بشكل مباشر إلى الأطراف التي تمتلك نفوذًا على الأرض، وتستطيع التحكم في مفاصل الحياة اليومية. من يُخزّن هذه البضائع؟ ومن لديه مصلحة مالية في الحفاظ على غلاء المعيشة؟ الإجابة قد لا تكون بسيطة، ولكنها حتمًا لا يمكن أن تغفل دور حماس، السلطة الحاكمة بحكم الأمر الواقع في غزة. ففي الوقت الذي تتعرض فيه لضغوط هائلة من الخارج، وتُقاتل من أجل بقائها، فإنها قد تكون منشغلة بمصالح سياسية واستراتيجية، متجاهلة بذلك معاناة الناس التي تتفاقم يومًا بعد يوم.
إن المشهد اليومي في غزة ليس مجرد قصة حرب، بل هو أيضًا قصة صراع داخلي على النفوذ والموارد. ففي حين أن الأولوية القصوى يجب أن تكون لإغاثة السكان وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حياتهم، يبدو أن هناك من يرى في هذه الأزمة فرصة لتعزيز نفوذه المالي والسياسي. هذا السلوك لا يُعد فقط استغلالًا بشعًا، بل هو خيانة لأمانة الشعب الذي وضع ثقته في قياداته. إن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل حماس، التي رفعت لواء المقاومة، تعمل حقًا نيابةً عن المواطنين، أم أنها أصبحت أسيرة لمصالحها الخاصة، غير عابئة بما يعانيه الشعب من جوع ومرض ويأس؟
في ظل آخر تطورات الحرب، حيث تتصاعد الدعوات الدولية لوقف إطلاق النار، وتتصاعد معها الآمال بإنهاء هذه الكارثة، يجب أن نكون واقعيين. وقف إطلاق النار وحده لن يكون كافيًا. فالمعاناة ليست عسكرية فقط، بل هي إنسانية واقتصادية أيضًا. إن لم يتم إيجاد آلية حقيقية لضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها، ومحاسبة الفاسدين والمتاجرين بالجوع، فإن الهدنة ستكون مجرد فرصة لإعادة ترتيب الأوراق، ولن تُنهي معاناة شعب بات يرزح تحت وطأة عدوين: الاحتلال من جهة، والفساد من جهة أخرى.
إنَّ سكان غزة، الذين يواجهون الموت كل لحظة، يستحقون أكثر من ذلك بكثير. يستحقون قيادة تُقدم مصلحتهم فوق كل اعتبار، وتُحارب الفساد كما تُحارب العدو. فقبل أن تُرفع الرايات وتُطلق الشعارات، يجب أن يُؤمن لقمة العيش، وأن تُضمن الكرامة، وأن يُعاد الأمل إلى قلوب شعب أنهكته الحرب والخذلان.