د. باسمة يونس
مع تحولات اللغة واستبدال الجمل الطويلة بالصور السريعة، هل على الكاتب أن يظل وفيّاً لأسلوبه، متماسكاً كجبل في وجه العواصف، أم عليه أن يشكّله بحسب عصره؟.
إن أسلوب الكاتب في جوهره، ليس زخرفة لغوية بل هو بصمة الوعي على الورق والطريقة التي يرى بها العالم ويعيد تصويره بالكلمات.
ويخبرنا التاريخ الأدبي أن أعظم الكتّاب لم يكونوا دائماً أسرى لأسلوب واحد بل هناك من أدركوا أن الزمن نفسه كائن حي، يتغير في ذائقته وإيقاعه، وأن النص الذي لا يتنفس مع زمنه قد يتحول إلى قطعة أثرية، وصحيح أنها جميلة، لكنها جامدة كحجر.
لقد كتب «إرنست همنغواي» أعماله بأسلوب شعري مراوغ في بداياته، ثم صار أكثر اختزالاً وصلابة مع الحروب والرحلات، وتنقل «طه حسين» بين أسلوب أكاديمي صارم، إلى لغة سيرية شفافة، ثم نبرة روائية مشبعة بالحوار الحي. هؤلاء لم يخونوا هويتهم، بل أعادوا صياغتها في كل مرة، لأنهم أدركوا أن الثبات التام في الأدب قد يكون موتاً مؤجلاً وبأن لكل زمن حاجته ولغته.
لكن يبقى السؤال: ماذا عن النصوص الكبرى التي تنتمي إلى ذاكرة الإنسانية، مثل «ألف ليلة وليلة»؟ هل يمكن أن يقرأها شباب اليوم كما قرأناها وكما قرأها أجدادنا، حين كانت حكاياتها تنبض في ليالي السمر وتُروى شفاهة قبل أن تسجل على الورق؟
الجواب ليس بسيطاً، فالقارئ المعاصر يدخل النص محمّلاً بألف صورة ذهنية مسبقة، وبوعي نقدي تغذيه ثقافة مرئية رقمية، وقد يجد في النص ما يراه غريباً أو مفرطاً في الرمزية أو التكرار. لكن الدهشة الأولى، تلك التي شعرنا بها وشعر كل مستمع بها في الماضي وهو يترقّب مصير شهريار أو حيلة شهرزاد، يمكن أن تولد من جديد إذا وجد النص أسلوباً مناسباً إلى أذن هذا الجيل.
وهنا، تبرز فكرة إعادة الكتابة، ليس بهدف المساس بالأصل أو انتهاك ملكية كاتبه الفكرية أو خيانته، بل بوصفها آداباً عالمية وجسوراً لغوية وجمالية، قيمتها محفوظة ولكن بلغة تنسجم مع الإيقاع الحسي والذهني للأجيال الجديدة.
لقد أعيدت صياغة الملاحم الإغريقية والقصص الدينية والأساطير القديمة في كل عصر، لا لتُمحى أصولها، بل لتحيا بأشكال جديدة ولتبقى في ذاكرة كل من سيأتي من أجيال.
لكن هذا الرأي قد لا يمنع الخطر الحقيقي، من تحول إعادة الكتابة إلى اختزال يجعل الكتب مناسبة للسوق ومرضية للقراء لكنها مفرغة من دلالاتها العميقة، وهذا يعني خسارة النص مرتين، مرة حين نخرجه عن أصالته، ومرة حين نفشل في إحياء روحه.
إن أسلوب الكاتب هو الجسر بين الأجيال، فقد يتبدل شكلاً لكن الجوهر يجب أن يظل ثابتاً، وقادراً على خلق الدهشة في كل عصر، بلغة يفهمها كل جيل ولكن دون أن يخسر النص نسبه إلى جذوره.