د. ناصر زيدان
خطاب وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي أمام المؤتمر الذي عقد في الأمم المتحدة لتأييد «حلّ الدولتين» والذي أعلن فيه تأييد بلاده للاقتراح المطروح، لاقى عاصفة تصفيق قوية من الحاضرين، لأنه موقف مُتميِّز وجديد، وله دلالات وأبعاد سياسية كثيرة، بينما كان خطاب رئيس الوزراء كير ستارمر في اليوم ذاته (29/7/2025) أكثر وضوحاً في هذا السياق، وهو تضمَّن الإعلان عن نية قاطعة للاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال مناقشات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر المقبل، استناداً إلى تصويت جرى في مجلس العموم البريطاني ووافقت أغلبيته على القرار. الموقف البريطاني الجديد، نال تأييداً عربياً ودولياً واسعاً وحظيَ باهتمامٍ دوليٍ كبير وأحدث صدمة في إسرائيل، أربكت رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي علَّق على الموقف بعبارات غير لائقة وغير مناسبة وفيها تشبيهات غريبة عجيبة، لا تنطبق على المعايير والوقائع القائمة وتنمُّ عن ضياعٍ وارتباك، خصوصاً عندما اعتبر أن قيام الدولة الفلسطينية سيهدد استقرار بريطانيا، ما أثار سُخرية في الأوساط الدبلوماسية الدولية.ماذا يعني القرار البريطاني الجديد؟ وما هي أهميته الاستراتيجية؟ لقد نشأت إسرائيل استناداً إلى رسالة بعث بها وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور في شباط/فبراير 1917 إلى زعيم الحركة الصهيونية روتشيلد، تتضمَّن وعداً بإنشاء دولة إسرائيل على أراضٍ فلسطينية، تجمع «يهوداً من العالم» وكانت بريطانيا الدولة المنتدبة بموجب تفويض عصبة الأمم على فلسطين والعراق. وبالفعل فقد ساعدت قوات الانتداب الحركات الصهيونية على الاستيلاء على الأراضي وعلى توطين اليهود في فلسطين، قبل إعلان «دولة إسرائيل» في عام 1948 ومن ثمَّ انسحبت قوات الانتداب البريطاني وتنصلت قوات الاحتلال الإسرائيلية من تنفيذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 تاريخ 29/11/1947 والقاضي بتقسيم البلاد إلى دولتين، واحدة يهودية بمساحة 15 ألف كم مربع وأخرى فلسطينية بمساحة 11 ألف كم، وفق ما تضمنه القرار. ويكتسب القرار البريطاني أهمية اليوم، لأن المملكة المتحدة كانت على الدوام مسانداً رئيسياً لإسرائيل في الأروقة الدولية كونها عضواً دائماً في مجلس الأمن ولها حق استخدام «الفيتو» وهي دافعت عنها بالسلاح أكثر من مرَّة، لا سيما إبان العدوان الثلاثي على مصر الذي اشتركت فيه مع فرنسا وإسرائيل بعد إعلان الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس في العام 1956. والمقاربة البريطانية الجديدة تُعبِّر عن مشاعر امتعاض عارمة في أوروبا تجاه تصرفات عدوانية ضد الفلسطينيين وصلت إلى حد تجويع المدنيين بكل فئاتهم حتى الموت وحرمانهم من أبسط مقومات العيش في قطاع غزة، بعد أن هدمت أغلبية منازل القطاع ومنشآته الحيوية وضربت كل مظاهر الحياة فيه وهي تعتدي على الفلسطينيين في الضفة الغربية وتقوِّض عمل السلطة الفلسطينية.لندن على تنسيق كامل مع فرنسا ومع عدد كبير من دول الاتحاد الأوروبي ومع كندا وأستراليا في هذا السياق وهي تلاقي الجهود العربية التي تسعى لتنفيذ مبادرة القمة العربية لعام 2002 والتي نصَّت على «حل الدولتين» كونه السبيل الوحيد لتحقيق سلام عادل ودائم في المنطقة. ومن المؤكد أن التوجهات الأوروبية الجديدة، لاسيما الفرنسية والبريطانية، لها أهداف استراتيجية أخرى إضافة إلى تأييد إنشاء دولة فلسطينية وقد يكون من أهم هذه الأهداف تأكيد الحضور السياسي والاستراتيجي للدولتين الكبيرتين في منطقة الشرق الأوسط المهمة، لأن دورهما تعرِّض للتهميش من قبل إسرائيل ولم يعُد له الأثر الوازن المعهود، والمنطقة العربية أساسية على المستوى العالمي وهي جنوب القارة الأوروبية، ولهذه القارة مصالح حيوية عليا فيها ولا يمكنها التخلي عنها. الموقف البريطاني يزعج من دون أي شك الحليفة الأمريكية، برغم أن الرئيس دونالد ترامب لم يأخذ موقفاً محدداً من القرار، لكن المعطيات المتوافرة تلحظ امتعاضاً بريطانياً – فرنسياً من الجنوح الإسرائيلي الذي لا يتقيَّد بأي ضوابط وواشنطن لا تريد إغضاب تل أبيب وتترك لها حرية حركتها العدوانية التي قد تؤدي إلى عدم استقرار شامل في المنطقة وقد تحدُث من خلال هذا الإنفلات الإسرائيلي تغييرات جوهرية على خارطة توزُّع القوى والخارطة الجديدة قد تضرّ بالمصالح الأوروبية. اتصالات التأييد الواسعة التي تلقاها ستارمر بعد إعلانه الموقف البريطاني الجديد، وضَّحت الصورة بشكلٍ جلي وأكَّدت على أهمية التحوُّل البريطاني، نظراً للثقل المادي والمعنوي الذي تمثله لندن وكونها كانت وراء فكرة إنشاء دولة إسرائيل، فالفضاء السياسي العربي اغتبط للخطوة ومعه عدد كبير من الدول الأوروبية التي ستعترف هي الأخرى بدولة فلسطين بعد بريطانيا والأجواء الدولية تتماشى مع هذا التوجه الجديد وتهديد إسرائيل بمنع إنشاء الدولة الفلسطينية بالقوة، لا يقلِّل من أهمية الخطوة البريطانية وهي قد تزيد من عزلتها الدولية وربما يصل الوضع إلى حد إحداث تعديل إيجابي جوهري في الموقف الأمريكي.