لا يجادل عاقلٌ في أن منطقة الشرق الأوسط تعيش مخاضاً عسيراً في هذه المرحلة، ما بين مرحلة انتهاء المحاور القديمة وبناء التحالفات الجديدة مع مرحلة العنجهية الإسرائيلية المفرطة والمتطرفة، أما المحاور القديمة فقد انتهى محور المقاومة وبات مشلولاً ومقطّع الأطراف، وأما المحور الأصولي، فما زال يعمل وبقوة، لكنَّه رهنٌ لتوازناتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ تفرض عليه عدم الانجراف وراء أحلام الخلافة ولا أوهام التوسع، والأحداث السياسية والقرارات السريعة لا تعني بأي حالٍ نسيان الماضي الممتد لعقودٍ تجاه القضية الفلسطينية على سبيل المثال.
تغيرت معادلات السياسة وتوازنات القوى في المنطقة بشكلٍ كبير، وكبيرٍ جداً في هذه المرحلة، بحيث ذهب أبطال الشعارات وقادة المزايدات أدراج الرياح، وذهبت معهم خسائرهم واستغلالهم وتوظيفهم للقضية الفلسطينية لخدمة غاياتهم الضيقة التي تقضي عليها وتضعفها، وحلت محل ذلك كله، رؤية عقلانيةٌ وواقعيةٌ وحكيمةٌ تتحدث عن السلام وفق حلّ الدولتين، وهو ما تدعمه بقوةٍ السعودية وفرنسا، ومصر والإمارات، وعدد ليس قليلاً من دول العالم.
المشكلة الحقيقية باتت في إسرائيل، التي يحكمها تيارٌ مختلطٌ للمتطرفين فيه ثقلٌ قوي، ومع انتشاء إسرائيل بانتصاراتها الحالية، فإنها باتت مغيبةً خلف خرافاتها ورهينةً عند متطرفيها، وأصبحت تسعى بحماقة الآيديولوجيا إلى أن تدير السياسة، وأن تكسب كل شيء خرافي وغيبي في لحظةٍ واحدة، وهو ما علمنا التاريخ بطوله أن مثل هذه اللحظات هي اللحظات التي تنتحر فيها الأمم من داخلها، ويقودها قادتها المؤدلجون إلى نهايتها، ومن يراقب المشهد اليوم يدرك أن إسرائيل تبدو في مهمة انتحارية للقضاء على نفسها، لا مهمة عقلانية للعيش وفق اتفاقات دولية، سياسيةٍ وثقافيةٍ ودينية، وكل ما اكتسبه اليهود جراء استخدامهم المظلومية التاريخية ضدهم يمكن أن يبدده التقاء «الكبر» السياسي والعسكري الإسرائيلي مع «خرافة» العقائد والأوهام التي تسيطر على الحكومة، وبعض الأحزاب، وبعض القادة.
المؤدلجون والحمقى فقط هم من يرفضون الاتفاقات الكبرى التي تغير الحاضر والمستقبل، والتي يتحدث فيها القادة لا بلغة السياسة، بل يتحولون لمخرفين صغار ليست لهم علاقة بالسياسة ولا بالعقلانية ولا الواقعية، تماماً كما يصنع نتنياهو واليمين الإسرائيلي المتطرف اليوم تجاه غزة.
تشهد دول الخليج العربي، السعودية والإمارات وقطر والكويت على أقل تقديرٍ، نهضةً حديثة وتنميةً مستمرةً واقتصاداً متطوراً، وبالتالي قوةً جيوسياسية تظهر في كثير من توازنات القوى في المنطقة، كما تظهر في كثير من المجالات المؤثرة على العلاقات الدولية، كل في مجاله، وبالتالي فهي دولٌ لا يمكن العبث معها من دول المنطقة أو من خارجها.
يبدو أن كثيراً من الدول الكبرى في العالم وفي المنطقة قد وصلت إلى نتيجةٍ مفادها أنها لن تستطيع التعايش مع جماعات النفاق الاستراتيجي التي تمثلها جماعات الإسلام السياسي، ولكن بمقدورها التعامل مع جماعات الإرهاب الديني عبر التعليم والتهذيب والتدريب، والسماح بانخراطها في العالم مجدداً.
التطرف الإسرائيلي الجديد، وتهذيب الجماعات الإرهابية والسيطرة عليها، أخرجت جماعات الإسلام السياسي، ولو مؤقتاً، من التأثير السياسي الحقيقي، وهو ما يشير له وضع «الإخوان المسلمين» في مصر.
تنهار المحاور السياسية، ولكن انهيارها لا يعني نهايتها اللحظية والآنية كما يفهم بسطاء الناس، فنهاية «محور المقاومة» لا كسره، حماقة مثلها مثل «نهاية الصحوة» لا كسرها، والإصرار على تسطيح التحليل السياسي بتغليب التفاهة والشعارات والمزايدات إنما يعيد الأمور لتاريخٍ طويلٍ من فشل الجمهوريات العربية في مواجهة إسرائيل.
أخيراً، فدول الخليج العربي تقود الآن المواجهة الفاعلة مع إسرائيل، والسعودية تقود جهوداً دوليةً لدعم القضية الفلسطينية، وقد دخلت دولة الإمارات على الخط بقوةٍ، وقال وزير الدولة بوزارة الخارجية الإماراتية خليفة شاهين المرر إن «ضم إسرائيل للضفة الغربية أو أي جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة يمثل خطاً أحمر». وقالت لانا نسيبة، في بيان إن «ضم الضفة الغربية سيشكل خطاً أحمرَ بالنسبة للإمارات من شأنه أن يقوض بشدة رؤية وروح اتفاقات (إبراهيم)، وأن ينهي السعي إلى التكامل الإقليمي».