: آخر تحديث

إلى سوق العمل والقطاع الخاص: بعد أن هدأ الضجيج.. نافذة التهدئة «قراءة أخرى»!

2
2
2

فهد عبدالله العجلان

حين يهدأ الضجيج، ويخفت صخب اللحظة، ندرك أن ما ينقذ المؤسسات ليس براعة الردود السريعة ولا قوة الحملات الإعلامية، بل تلك المساحة القصيرة التي تسمى نافذة التهدئة (Cooling-off period).

هي مهلة مؤقتة، لكنها فاصلة بين الانفعال والعقل، بين القرار المرتجل والقرار العادل. جذورها ممتدة في الرداء القانوني العالمي؛ فقد ظهرت أولًا في القانون التجاري والسياسي في أوروبا والولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، بوصفها «مهلة للتريث» في العقود والصفقات، ثم تطورت في القرن العشرين لتُعرف في التشريعات العمالية على أنها «فترة الإشعار قبل الإضراب أو الفصل»، قبل أن تتبناها أنظمة الأسواق المالية بوصفها «فترة الحظر قبل التصعيد».

ومع مرور الزمن، أصبحت جزءًا من منظومة الإجراءات الواجبة (Due Process) التي تمنح كل طرف الحق في أن يُسمع صوته وأن يُراجع القرار قبل أن يصبح نهائيًا. بهذا المعنى، نافذة التهدئة اليوم ليست مجرد فكرة إدارية، بل هي امتداد لمبدأ العدالة الإجرائية ذاته.

لقد أثبت التاريخ أن الشركات التي منحت نفسها وجمهورها هذه النافذة نجت من كوارث كانت ستطيح بها. فحين واجهت شركة جونسون آند جونسون (Johnson الجزيرة Johnson) أزمة «التايلينول» في الثمانينيات، لم تركض إلى التبريرات العاطفية، بل جمّدت الموقف وفتحت نافذة مراجعة دقيقة، أوقفت الإنتاج مؤقتًا، ثم خرجت باستراتيجية استعادة ثقة جعلتها تُدرَّس في كليات الإدارة. وعلى النقيض، حين تجاهلت شركة يونايتد إيرلاينز (United Airlines) في 2017 ضرورة التهدئة بعد حادثة إنزال راكب بالقوة، وأطلقت بيانات متسرعة قبل استكمال التحقيق، تحولت الواقعة إلى عاصفة عالمية كلّفتها مليارات من قيمتها السوقية وجرحت سمعتها لأعوام.

لكن نافذة التهدئة (Cooling-off period) ليست مجرد إجراء قانوني، بل هي منظومة متكاملة داخل الشركة. هنا يظهر دور الموارد البشرية، فهي الحارس الأول للعدالة الداخلية، والمسؤولة عن تحويل الغضب إلى ملفات موثقة، وعن منح الموظف الحق في أن يسمع وأن يُسمَع. كما يظهر دور الاتصال المؤسسي، الذي يجب أن يقاوم غواية الدعاية السريعة، وأن يكتفي خلال فترة التهدئة بلغة الوقائع الحقيقية، لا بلغة الانفعال. فإذا اختلط صوت الموارد البشرية مع صوت الاتصال المؤسسي، صارت النافذة جدارًا يحمي المؤسسة، بدل أن تكون ثغرة يدخل منها اللهب.

وإذا رجعنا إلى الاقتصاد الكلي، نجد أن غياب نافذة التهدئة (Cooling-off period) كان دومًا بداية الكوارث. في الكساد الكبير، لو أُعطيت الأسواق فترة للتعقل قبل إقرار قانون سموت-هاولي (Smoot-Hawley Tariff Act)، لما انكمشت التجارة العالمية بأكثر من 60 % ولما تحولت الأزمة إلى طوفان عالمي. وفي الأزمة المالية عام 2008، حين ترددت الحكومات بين الصمت والاندفاع، تبنت في النهاية أدوات تشبه نافذة التهدئة تضمنت: تجميد بعض ممارسات البيع على المكشوف، وضخ السيولة الطارئة، وفتح تحقيقات هادئة قبل إصدار أحكام. ذلك التريث أنقذ النظام المالي حينها من سقوط حرّ.

نافذة التهدئة (Cooling-off period)، إذن، تقع في قلب الرداء القانوني الحديث: بين الحق الفردي في الإنصاف وحق المؤسسة في الاستقرار. هي ليست بديلاً عن القضاء ولا عن أنظمة العمل، لكنها إجراء داخلي إلزامي على كل شركة أن تضعه في لوائحها، ليكون خط الدفاع الأول عن عدالتها الداخلية. فحين يعلم الموظف أن له قنوات تظلم واضحة وزمنًا محددًا يُسمع فيه صوته، يقل ميله إلى اللجوء إلى السوشيال ميديا كساحة انتقام. وحين تعلم الشركة أن الاتصال المؤسسي يجب أن يتنفس من رئة الموارد البشرية، يقل اندفاعها إلى حملات تبرير أو «شراء صمت» تعمّق الخسارة بدل أن تحلّها.

في النهاية، لعل المجاز الأبلغ أن نافذة التهدئة (Cooling-off period) أشبه بـ الطلاء الذي لا يلمع على الجدار، بل يترك المجال للمهندس أن يرمّم أساساته. إنها فسحة العدل داخل العاصفة، وحين تغيب، يتحول كل نزاع صغير إلى مأساة، وكل اختلاف فردي إلى أزمة اقتصادية عامة. وإذا أردنا سوقًا يحترم الكفاءة ويصون الوظائف، فلا بد أن نؤمن أن العدالة تبدأ من هذه اللحظة القصيرة: لحظة التهدئة..


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد