: آخر تحديث

‏المغرب وإنجلترا والعالم الجديد سنة 1600... ماذا لو..؟

2
2
2

في ربيع سنة 1600 ميلادية زار عبد الواحد بن مسعود لندن سفيراً لسلطان المملكة الشريفة (المغرب) أحمد المنصور الذهبي. مهمة السفير المغربي كانت هي اقتراح حلف إسلامي – بروتستانتي ضد إسبانيا الكاثوليكية. الرسالة التي حملها السفير المغربي إلى إليزابيث الأولى تحمل خطة واضحة: استعادة الأندلس والجزيرة الآيبيرية من إسبانيا و«انتزاع الهند الشرقية والغربية من الإسبان».

بعد هزيمة البرتغال على يد المغاربة في معركة وادي المخازن (أغسطس/آب 1578) ضمّت إسبانيا البرتغال تحت عرش الملك فيليب الثاني، وبهذا صارت تتحكم، بطريقة غير مباشرة، في مستعمرات البرتغال في آسيا بالإضافة إلى مستعمراتها في أميركا الوسطى والجنوبية.

انتزاع كل هذا من إسبانيا القوية آنذاك قد يبدو أمراً قريباً من الخيال، ولكنه يؤكد رغبة الملك السعدي في جعل المغرب قوة بحرية وأطلسية عالمية، في تحالف ذكي مع إنجلترا التي أبانت في العصر الإليزابيثي عن مقومات الصعود لتصبح دولة لا يُستهان بقوتها كذلك.

تُظهر الوثائق التاريخية هنا ما كان يمكن أن يحدث؛ خصوصاً في خضم مظاهر ضعف الإمبراطورية الإسبانية: فشل الأرمادا الإسبانية ضد إنجلترا في 1588، وموت الملك فيليب الثاني في 1598، وثورة الجمهورية الهولندية ضد العرش الإسباني، ويقظة فرنسا من حروبها الداخلية. وكانت الأزمة الاقتصادية في إسبانيا واضحة، إذ أدى الاعتماد المفرط على الذهب والفضة المستوردين إلى التضخم وتراكم الديون. كانت إسبانيا من أقوى دول العالم آنذاك، ولكن مظاهر الضعف كانت بادية للسعديين على بُعد 14 كيلومتراً فقط من الجزيرة الآيبيرية.

نعم، المنظر يبدو باروكياً بكل المقاييس: رجل مسلم يرتدي عمامة بيضاء زاهية وجبّة فضفاضة طويلة حتى الكعبين، مع رداء أبيض لامع فوقها، وتحته قفطان زاهي الألوان، غالباً مطرَّز بخيوط من ذهب، ويشدّ على خصره حزاماً عريضاً يضع فيه أحياناً خنجراً، وينتعل بلغة مغربية تقليدية صفراء أو حمراء. يأتي أمام الملكة إليزابيث الأولى المرتدية فساتين فاخرة من الحرير أو المخمل، واسعة بفضل تنانير مدعَّمة بالدوائر (فارثنغيل)، ومعها ياقات دانتيل كبيرة (روف) حول العنق. ملابسها مزينة باللآلئ والجواهر والتطريز بالذهب، واضعة شعراً مستعاراً أو تيجاناً وحُليّاً مرصعة بالريش والأحجار الكريمة، ليطرح فكرة الأساطيل والقضاء على أكبر إمبراطورية في ذلك الوقت.

الأرشيفات حبلى بهذه التقاطعات في علاقات الإمبراطورية المغربية مع دول أوروبية؛ خصوصاً إنجلترا وهولندا والنمسا وفرنسا. وكان المغرب آنذاك يمتد شمالاً من طنجة وتلمسان حتى أعماق أفريقيا في كاو وجيني وتمبكتو، ما جعله قوة إقليمية كبرى تتحكم في طرق التجارة بين المتوسط والساحل.

لم يكن المغرب قوة بحرية آنذاك كما كان في عهد الموحدين أو المرينيين، ولم تبزغ بعد إنجلترا كقوة ذات أساطيل تجوب البحار كما حصل في القرون الموالية. أي أنهما لم يكونا، من قريب أو بعيد، يضاهيان في القوة والعظمة ما كانت تملكه إسبانيا. ومع ذلك فإن هذا اللقاء بين سفير المغرب وملكة إنجلترا شكّل حدثاً ثقافياً بارزاً أيضاً؛ فقد تركت صورة السفير بلباسه المغربي الفخم أثراً عميقاً في المخيال الأوروبي، ويُرجَّح أن يكون شكسبير قد استلهم منها شخصية «عطيل» التي عُرضت بعد سنوات قليلة (انظر: لحسن حداد: «مغربي ألهم شكسبير... حكاية سفير المملكة في قلب لندن الإليزابيثية»، هسبريس، 14 أغسطس 2025).

ولكن ما كان يريده المغرب، وإنجلترا التي كانت تبحث عن تحالفات بعيداً عن حروب أوروبا اللامتناهية، هو أمر آخر: ألا وهو نظام مشترك مغاير وبديل، يكون فيه هذان الشريكان غير المتوقعَين فاعلين عالميين. لقد تخيّلا وضعاً جديداً بملامح أطلسية متعدِّدة. نعم، ظلّ الاقتراح مشروعاً مُجهَضاً؛ خصوصاً بعد موت أحمد المنصور سنة 1603 وبداية نهاية الحقبة الذهبية للحكم السعدي، ودخول ورثة أحمد المنصور في تطاحنات على السلطة. وكذلك موت إليزابيث في السنة نفسها، ونهاية حكم آل تيودور، ودخول البلاد في شبه أزمة سياسية ودينية، رغم توحيد إنجلترا وأسكوتلندا تحت عرش واحد في عهد جيمس الأول.

هذه اللحظة، التي كان من الممكن أن تغيّر مسار النظام العالمي آنذاك، كان لها — على الأقل — دور، وإن على المستوى الخطابي، في زعزعة فكرة «الاكتشاف» كمقولة متمركزة على الذات والفعل الأوروبيين. فالمغرب آنذاك كان يسهم في إعادة تشكيل مسار التاريخ، ودفعه ذلك إلى البحث عن حليف أوروبي استثنائي: بروتستانتي ومعارض لتحالف عرش إيبيريا والكنيسة الكاثوليكية، لعلّه يفتح آفاقاً جديدة في العالم الجديد؛ هذا العالم الذي احتكرته إسبانيا (ومعها البرتغال) لمدة قرن من الزمن.

وماذا لو نجح هذا التحالف الإسلامي – البروتستانتي؟ سفارة عبد الواحد كانت خاطفة، عابرة، ولكنها ومضة مزلزلة في عالم الصور المضادّة للواقع وللتاريخ. مستقبل مؤجَّل ووعد لم يكتمل يعطياننا قراءات مثيرة لعالم سنة 1600.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد