في البلاد الليبية ضجّةٌ ما بين سيفٍ والقديم
كُلٌّ يُصحّحُ سرده... يا ليت شعري ما القويم؟
بالإذن من شاعرنا وحكيم العصور، أبي العلاء المعرّي، في ضجّته اللاذقية الشهيرة.
الحاضر الليبي اليوم، تعيسٌ بئيسٌ. انقسامٌ عميقٌ بين شرق وغرب، بين جيش وميليشيات، بين بنغازي وطرابلس. نفطها مقسومٌ، وبحرُها مشطور، وأمنُها يغلي على فم التنّور.
لذلك بدأت دعواتُ كنسِ هذا الواقع وبناء واقعٍ جديد، تتكاثر وتكتسب زخماً يوماً إثر يوم، وعاماً بعد عام.
هناك يأسٌ من صلاح الحال، وهذا اليأسُ قاد لتقليب الدفاتر الليبية القديمة، والبحث فيها عن المفيد لليوم.
دفاترُ قديمة وأخرى أقدم: الدفتر القذّافي، المكتوب بمِداد الشرعية الثورية السبتمبرية؛ ثورة الفاتح من سبتمبر. ودفترٌ سنوسيٌّ مَلكي حروفه مُعرقة في الوجدان الليبي وواحات وزوايا السنوسية التاريخية، وعهد «الجهاد» ضد الاحتلال الإيطالي.
سيف الإسلام نشر مجموعةَ وثائق يقول إنَّها أدلّة على تنازل الملك الراحل إدريس السنوسي، عن العرش، من بينها وثيقة تنازُل صادرة عن الملك يعود تاريخها إلى 4 أغسطس (آب) 1969.
أي إنّ الملك إدريس «تنازل» بطوعه، وسلّم الراية للنظام الجمهوري على الطريقة القذّافية، وأنصار السابق عدّوا ما عرضه سيف «تصويباً لقراءة تاريخية»، معتبرين أنَّ روايته «مهمة» لإعادة فهم تلك المرحلة.
في المقابل رفض سياسيون وباحثون مؤيدون لفكرة «الملكيّة الدستورية» هذه الرواية، ووصفوها بأنَّها «محاولة لإعادة كتابة التاريخ بهدف تلميع صورة نظام القذافي، وخدمة طموحه لرئاسة ليبيا».
سيف القذّافي استند إلى وثائق ليبية وبريطانية وأميركية، منها مذكرات المستشار البريطاني للملك، إيريك دي كاندول، إلى جانب رسائل من الملكة فاطمة، زوجة الملك إدريس، ليدلل على روايته بأن «التنازل كان قراراً إرادياً لا نتيجة انقلاب».
لكنّ رئيس اللجنة التحضيرية لـ«المؤتمر الوطني لتفعيل دستور الاستقلال» أشرف بودوَّارة، فنّد رواية سيف الإسلام، قائلاً لـ«الشرق الأوسط» إنَّ الوثائق الرسمية «تثبت أنَّ الملك لم يتنازل عن الملكية بوصفها كياناً دستورياً، بل مارس صلاحياته وعيّن وليَّ العهد، ثم سلّمه المسؤولية قبل مغادرته البلاد»، مبرزاً أنَّ «وثيقة 4 أغسطس تنصُّ بوضوح على تنصيب الحسن الرضا ملكاً على ليبيا».
التاريخ ليس نصّاً مُغلقاً، بل نسقٌ مفتوح، هذه عبارة نقرأها ونسمعها كثيراً، لكن هذا برهانٌ تطبيقي حديثٌ على هذه المقولة.
أيَّ تاريخ نعتمد حول التحوّل السياسي الليبي الحديث؟!
الباحث الليبي حمد الخراز يرى أن «سيف الإسلام يحاول إعادة صياغة تاريخ الثورة بما يخدم طموحه السياسي».
صدقَ الخراز، لكن ليس سيف القذّافي من يفعل ذلك وحده، فالجميع يفعل ذلك، أو أغلب الجميع، والحقّ أن الأمر ليس بسوء نيّة دائماً أو بهدف سياسي دائماً، بل لأن التاريخ فعلاً «كتابٌ مفتوح» باستمرار.