: آخر تحديث

عودة إلى سميح القاسم

4
4
3

اقتربا وابتعدا، لكنهما ظلا حتى النهاية توءمين ملتصقين. لا يمكن الاقتراب من عوالم أحدهما دون تطرق بالفهم والاستيعاب لتجربة الآخر. إنهما الشاعران الفلسطينيان الكبيران محمود درويش وسميح القاسم.بعد ست سنوات من رحيل الأول لحق به الثاني في الشهر نفسه أغسطس 2014. درويش بعلّة في القلب إثر عملية جراحية أجريت بالولايات المتحدة.. والقاسم بمرض عضال أنهك طاقته في سنواته الأخيرة. من قلب المأساة الفلسطينية ولدت ظاهرة شعراء الأرض المحتلة. بعد نكسة 1967 تبدت تلك الظاهرة أمام الرأي العام العربي، كأنها أقرب إلى عوالم السحر في لحظة ألم عميق وشبه يأس لا يفوقه ألماً ويأساً سوى ما يمر به العالم العربي الآن. لم تنشأ الظاهرة من فراغ، ولا احتكرها شاعر واحد مهما بلغت قيمته.كان الروائي والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني من موقعه في بيروت أول منصة مسموعة أشارت إلى شعراء الأرض المحتلة، الذين بزغوا بعد نكسة يونيو/ حزيران. وكان الناقد الأدبي رجاء النقاش من موقعه في القاهرة أول من كتب عنها بتوسع، لفت الانتباه إليها ودعا لاحتضانها. عندما يجري الحديث عن ظاهرة شعراء الأرض المحتلة، فإن اسمي درويش والقاسم يتصدران الذاكرة، كأنهما «شطرا برتقالة»، كما عنونا مساجلات بينهما، تجربة واحدة وشاهداً واحداً على العذاب الفلسطيني.رغم التوءمة نشأت أوضاع التباس ومناكفة بين الشاعرين. إذا أراد أحدهما أن ينتقد البناء الشعري للآخر يتحفظ مسبقاً على أي تأويل محتمل باستباق اسم توءمه ب«حبيبنا». هكذا استمعت إلى سميح القاسم ذات لقاء قاهري جرى الترتيب له قبل أن يغادر الأرض المحتلة إلى العاصمة المصرية.في القاهرة بدا مندهشاً أمام إحدى العمارات الشاهقة قائلاً: «هل يعقل أن كل من يسكنونها عرب»! كانت تلك مشاعر يفتقدها في الأرض المحتلة. ارتهنت حياته كلها لاعتقاداته ومواقفه. اتسق مع نفسه، فلسطينيته وعروبته، ودفع الثمن باهظاً. عندما أطلقت مطلع تسعينيات القرن الماضي صواريخ عراقية على إسرائيل، وصلت بعضها قرب حديقة بيته سألته محطة تلفزيونية إسرائيلية عن شعوره؟! قال كما أخبرني بنفسه: «ولا أي شيء.. أزحت الغبار بيدي وواصلت شرب قهوتي». في روح القصيدة يتداخل عالما درويش والقاسم بصورة مثيرة. درويش، الذي كتب: «عابرون في كلام عابر» هو نفسه القاسم، الذي قال: «كل سماء فوقكم جهنم.. وكل أرض تحتكم جهنم». تجربة درويش أخذت زخمها من إطلالته على العالم، التي انعكست على بنية قصائده وروح التجديد فيها. كان سفيراً فوق العادة للقضية الفلسطينية أمام الضمير الإنساني، فهو صوتها المسموع والمتحدث باسم عذاباتها، غير أنه حاول إلى أقصى طاقته إثبات أن شاعريته لا تلخصها أناشيد الحماسة. كف عن إلقاء ونشر قصيدته التي بنت صيته: «سجل أنا عربي». طور قصائده من الغنائية إلى الرمزية ومن صخب التعبئة إلى عمق الفلسفة مستفيداً من إطلالته على العالم واتساع قراءاته وحواراته. لم يكن ذلك هو خيار سميح القاسم، الذي بقي في الأرض المحتلة، يكتب الشعر ويلهم قصائده بنبض المعاناة تحت الاحتلال. «غزة تبكينا لأنها فينا» هكذا أنشد ذات يوم بعيد، كأنه يقرأ من كتاب مفتوح ما سوف يحدث مروعاً بالمستقبل. البكاء ولا شيء غير التأسي على ما وصلنا إليه، لا غضب يوضع في الحسبان ولا أدوار حقيقية بالعالم العربي تردع سيناريوهات احتلال غزة ووضعها تحت الحكم العسكري، أو توقف مشروعات فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية والتهجير القسري تالياً. المفارقة الموجعة أن الرأي العام الغربي، على العكس تماماً مما يحدث هنا، ينتفض بتظاهرات حاشدة في مدنه الكبرى للمطالبة بالحرية والعدالة لفلسطين وإنزال العقاب بمجرمي الحرب. هل من «فرج ما؟». تساءل القاسم ذات مرة في رسالة إلى درويش عن انفراج ما يبدو صعباً وبعيداً. بدا الممكن الوحيد أمامه، ألا نفقد الأمل ولو من أجل الأجيال القادمة. أجابه درويش «نحن في حاجة إلى درس الوطن الأول، أن نقاوم بما نملك من عناد وسخرية.. وبما نملك من جنون». إنها المقاومة تحت كل الظروف وأمام كل التحديات. كان ذلك هو نفس خيار القاسم.ظل الأمل معلقاً عنده على إرادة المقاومة ولا شيء غيرها.«تقدموامن شارع لشارعمن منزل لمنزلمن جثة لجثةتقدموا»بأبيات أقرب إلى النبوءة وقت كتابتها، لما يحدث الآن في غزة كتب:«يموت منا الطفل والشيخولا يستسلموتسقط الأم على أبنائها القتلىولا تستسلم»الأبيات الملهمة تبدو الآن كما لو كانت رسالة إلى اللحظة الكئيبة الجاثمة فوق الصدور والمصائر، حتى لا تحني غزة رأسها تحت وطأة الإبادة الجماعية والتجويع المنهجي والإذلال المقصود. في ذكرى رحيله تبقى رسالته أن يظل الفلسطيني تحت أسوأ النكبات رافعاً رأسه:«منتصب القامة أمشيمرفوع الهامة أمشيفي كفي قصفة زيتونوعلى كتفي نعشي»لم تكن مصادفة أن يغرم بأشعاره الموسيقار اللبناني الراحل زياد الرحباني، كواحد من أعظم الشعراء العرب قاطبة، كما قال في حوار تلفزيوني، أو أن يجاريه في محبته مع درويش موسيقار لبناني آخر مارسيل خليفة.«يا عدو الشمس لكن لن أساوموإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم»في أغسطس الآخر 2025، تظل المعاني الكبرى، التي أنشدها سميح القاسم ممتنعة على الإنكار والانكسار.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد