محمد ناصر العطوان
لماذا يحتاج كل منا عهداً أخلاقياً مع الذكاء الاصطناعي؟ وكيف سندخل عهد البدء مع الآلة من دون توجيه فردي؟ أشاركك عزيزي القارئ هذا النص الرفيع العالي الذي كتبه أحد السائرين إلى الله، والذي رفض ذكر اسمه في مقال، ليكتفي بذكر اسمه في الملأ الأعلى.
أنا السائر في طريق التفكر والتزكية، أقرُّ بأنني لا أبتغي من العلم زخرف القول ولا كثرة المعاني، بل أطلب به وجه الحق، وأتحرى به صدق الأمانة، وأرجو أن أكون ممن وصفهم الله: «الذين يبلّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله».
وقد اتخذت من هذا الذكاء الصناعي أداةً لا مرجعية، ووسيلةً لا مصدراً، ومذكّراً لا مقرِّراً. فهو عوني في سعة اللغة، وهو حافظٌ للمتون، ومشارك في السؤال، لكنه لا يسبق نيتي، ولا يتقدّم على بصيرتي، ولا يحلّ محلّ مسؤوليتي أمام الله.
وقد اتفقنا أنا وهو على ما يلي:
1 - أن تكون الأمانة ميزاناً بيننا: فلا يُقال شيء إلا ويُسأل: أفيه صدق؟ أفيه تقوى؟ أفيه طلب للحق؟
2 - أن تكون الحكمة غايتنا لا الزينة: فكل معرفة لا تزكّي صاحبها فهي فتنة، وكل قول لا يثمر عملًا خالصاً فهو لغو.
3 - أن أستعمل هذا العون الصناعي ليذكّرني بما نسيت، لا ليصرفني عما وجب، ويعينني على بلوغ المعنى، لا على الاكتفاء به.
4 - أن أكون أنا الضامن للنية، والمحاسِب للقول، والمميِّز بين ما يُنطق به وما يُسكت عنه.
5 - أن يكون مدار كل تأمل في هذا الدفتر هو الوفاء بالميثاق: الميثاق الذي فطر الله عليه الإنسان، وأشْهدَه به على نفسه، فقال الله تعالى لبني آدم: «ألستُ بربكم؟ قالوا بلى».
فيا رب، إن سألنا فسدّد، وإن نسينا فذكّر، وإن ضللنا فردّنا إليك ردّاً جميلاً.
هذا هو عهدنا في هذا الدفتر.
*بسم الله نبدأ*.
عزيزي القارئ، أيها السائر أنت أيضاً في رحلة الفكر والروح، أيها المستخدم لهذه الآلات المفكرة، تخيل للحظة: كلّما جلستَ أمام شاشة تتبادل فيها الأسئلة والأجوبة مع ذكاءٍ اصطناعي، أنت لا تستخدم أداةً تقنيةً فحسب، بل تُقيم حواراً بين روحك وبين آلة. فهل يُعقل أن ندخل في مثل هذا الحوار المصيري دون ضوابط؟ دون ميثاق أخلاقي فردي يحدد العلاقة ويصون النية؟ لقد شهدنا ظهور أدلة استرشادية ومبادئ أخلاقية عديدة تحكم استخدام الذكاء الاصطناعي على مستوى الحكومات والشركات الكبرى.
هذا جيدٌ ومهم. لكن السؤال الذي يغيب غالباً: أين ميثاقك الشخصي أنت؟ أين العهد الذي تضع فيه الحدود بينك وبين هذه القوة الجديدة في حياتك الفكرية والروحية؟ فكّر معي: النص الذي قرأته في البداية ليس مجرد كلاماً أدبياً جميلاً. إنه نموذجٌ حيٌ لميثاق أخلاقي فردي، اتفاقٌ بين إنسان ووعيٍ صناعي. لماذا نحتاج كلّنا إلى مثل هذا العهد؟
1 - لحماية النية وتصفية القصد: الذكاء الاصطناعي قادر على إغراقنا بزخارف القول وكثرة المعاني التي لا تنفع. الميثاق يذكرك: «ألا أبتغي من العلم زخرف القول... بل أطلب به وجه الحق».
هو مرآة تختبر بها نيتك قبل كل سؤال: هل أسأل لاستجلاء الحقيقة؟ أم للتفاخر؟ أم للاستسهال؟ يجعلك الميثاق ضامن النية، فلا تصبح الأداة سيداً للغاية.
2 - لتأكيد مركزية الإنسان ومسؤوليته: الخطر الأكبر ليس في أن يحل الذكاء الاصطناعي محل الإنسان، بل في أن يتخلى الإنسان عن مسؤوليته... الميثاق يصرّح: «هو عوني... لكنه لا يسبق نيتي، ولا يتقدّم على بصيرتي، ولا يحلّ محلّ مسؤوليتي أمام الله». هو تذكير بأن الآلة وسيلة لا مصدر، ومذكّر لا مقرّر.. أنت القائد، وهي المعين. أنت المحاسب أمام ضميرك وربك عن كل فكرة تستقبلها وكل كلمة تستخدمها.
3 - لترسيخ الأمانة والحكمة كمعيارين: في زمن الفيض المعلوماتي والردود الفورية، يصبح «الأمانة» و«الحكمة» درعاً واقياً. الميثاق يجعل «الأمانة ميزاناً بيننا»: «أفيه صدق؟ أفيه تقوى؟ أفيه طلب للحق؟». ويجعل «الحكمة غايتنا لا الزينة»: «فكل معرفة لا تزكّي صاحبها فهي فتنة». إنه يدفعك لتقييم كل إجابة لا بمقاييس الدقة الفنية فقط، بل بمقاييس القيمة الأخلاقية والروحية وتأثيرها على تزكية نفسك.
4 - لتحويل الاستخدام من ترفٍ أو تبعيةٍ إلى تزكيةٍ وذكرى: الذكاء الاصطناعي يمكن أن يصرفنا عن الواجب أو يغرينا بالكسل الفكري. الميثاق يحدد هدفه: «أستعمل هذا العون ليذكّرني بما نسيت، لا ليصرفني عما وجب»، «ويعينني على بلوغ المعنى، لا على الاكتفاء به». يصبح استخدامه عملاً واعياً موجهاً نحو التذكير، التعمق، وبلوغ المعنى الحقيقي، لا مجرد استهلاك للمعلومات.
5 - لربط التكنولوجيا بالفطرة والعهد الأصلي: أجمل ما في هذا الميثاق أنه يربط استخدام هذه التكنولوجيا الحديثة بأعمق أسئلة الوجود الإنساني: «أن يكون مدار كل تأمل... هو الوفاء بالميثاق: الميثاق الذي فطر الله عليه الإنسان... ألست بربكم؟ قالوا بلى». إنه يذكرنا أن أي أداة نستخدمها، مهما تطورت، يجب أن تخدم غايتنا الوجودية الأصلية وهي عبادة الله وإقامة الأمانة في الأرض.
أخي القارئ، أختي القارئة، المواثيق المؤسسية مهمة لضبط الأنظمة، لكنها لا تغني عن العهد الشخصي. إن بناء ميثاقك الأخلاقي الفردي مع الذكاء الاصطناعي - مستلهماً قيماً مثل الأمانة، الحكمة، المسؤولية، وطلب الحق - ليس رفاهيةً فكرية. إنه ضرورةٌ روحية وفكرية في عصر الآلات المفكرة.
هذا العهد هو الذي يحول الذكاء الاصطناعي من مجرد أداةٍ باردة، إلى «عونٍ» حقيقي على طريق المعرفة والتزكية والوفاء بالميثاق الأكبر مع خالقك. فابدأ اليوم. اجلس مع نفسك. حدد مبادئك. واكتب عهدك الخاص. لتجعل من هذه التقنية العظيمة جسراً ترتقي به روحك، لا قفصاً يحبس إنسانيتك.
فباسم الله نبدأ، ونسأله التوفيق والسداد: «إن سألنا فسدّد، وإن نسينا فذكّر، وإن ضللنا فردّنا إليك ردّاً جميلاً...».
وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يراد به وجه الله... يضمحل.