حصل شبه إجماع لبناني على أهمّية التخلص من سلاح «حزب الله. يأتي ذلك في وقت لا تفسير آخر لإصرار الحزب على الاحتفاظ بسلاحه، سوى رغبته في تكريس الاحتلال الإسرائيلي لمواقع في جنوب لبنان وتأكيد أن وظيفة هذا السلاح لم تنته بعد.
مشكلة الحزب في أنّّ السلطة التنفيذية ممثلة بالحكومة تعرف تماماً أنه لا خيار آخر غير التخلص من السلاح غير الشرعي الذي كان فلسطينياً بعد اتفاق القاهرة للعام 1969 وصار إيرانياً، بغطاء سوري، بعد قيام «حزب الله» وخروج المسلحين الفلسطينيين من لبنان في العام 1982.
يقتات الحزب من استمرار الاحتلال ويستخدمه لتبرير الاحتفاظ بسلاحه الذي لم يستخدم في يوم من الأيام سوى في خدمة غرض واحد هو الغرض الإيراني. حصل ذلك داخل لبنان وفي سوريا، عبر المشاركة في الحرب على الشعب السوري، وفي اليمن حيث كان لعناصر حزبية لبنانيّة دور تاريخي في تحويل الحوثيين إلى قوّة عسكرية استخدمت طويلاً في ابتزاز دول الخليج العربي...
ليس سرّاً، أنّ لا خروج لإسرائيل من المواقع الخمسة التي تسيطر عليها في جنوب لبنان، ولا إعادة إعمار للقرى المدمّرة، ولا عودة للنازحين إلى قراهم المحاذية للحدود ما دام سلاح الحزب، وهو سلاح إيراني، موجوداً.
هذا ما يعرفه الحزب جيّداً، وقبل غيره. لكن ما العمل مع فريق لبناني يرى في استمرار الاحتلال الإسرائيلي مصلحة ذات طابع وجودي له ومبرراً للاحتفاظ بسلاح يستقوي فيه على البلد وعلى اللبنانيين الآخرين.
تبقى «حصرية السلاح»، بموجب جدول مواعيد واضح، مدخلاً محتملاً لزوال الاحتلال، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار موازين القوى على الأرض. كشفت موازين القوى تلك تفوقاً عسكرياً وتكنولوجياً إسرائيلياً واضحاً في كلّ مجال.
تعبّر عن التفوق عملية «البيجرز» والاغتيالات التي شملت معظم رجال الصفّ الأول من القادة العسكريين والأمنيين في الحزب، بما في ذلك حسن نصرالله وهاشم صفي الدين.
اللافت أنّ عمليات الاغتيال التي تنفذها إسرائيل مستمرّة وهي تشير إلى اختراقات في العمق للحزب وإلى وجود بنك معلومات لا ينضب لدى الدولة العبريّة التي تبيّن أنّها تعرف عن الحزب وتركيبته، بل عن أحوال إيران نفسها، أكثر بكثير مما يعتقد!
لا وجود لهدايا مجانيّة في عالم السياسة. توجد هزيمة يرفض الحزب، ومن خلفه إيران، دفع ثمنها. أكثر من ذلك، يريد من لبنان واللبنانيين وأهل الجنوب من شيعة وغير شيعة، دفع ثمن هزيمة مدويّة.
وقعت هزيمة نتيجة حرب اتخذ الحزب قراراً بشنها على إسرائيل بمعزل عن الدولة اللبنانية وما بقي من مؤسساتها، بما في ذلك الجيش اللبناني. لم يكن من منطق آخر لـ«حرب إسناد غزة»، انطلاقاً من جنوب لبنان، غير المنطق الإيراني القائم على جمع أوراق إقليمية تساعد طهران في عقد صفقة مع أميركا.
بات مطلوباً من لبنان دفع ثمن الفشل الإيراني، وهو فشل شمل خسارة سوريا التي لم تعد تحت سيطرة «الجمهوريّة الإسلاميّة» منذ 8 ديسمبر 2024، يوم فرار بشّار الأسد إلى موسكو.
يبدو منطقياً في نهاية المطاف، بالنسبة إلى الحزب، الهرب من الاستحقاق المتمثل بمرحلة ما بعد تسليم السلاح. يتمثل هذا الاستحقاق في كيفية التعاطي مع إسرائيل التي لا تبدو مستعدة للتخلي عن المواقع الخمسة والسماح بإعادة الإعمار من دون توفير ضمانات لبنانية محددة.
يفضل الحزب، ومن خلفه إيران، تفادي الوصول إلى تلك المرحلة. يفضل استمرار الاحتلال، خدمة لما تريده «الجمهوريّة الإسلاميّة» بدل مواجهة الأسئلة الحقيقية. تعني هذه الأسئلة، بين ما تعنيه، العودة إلى اتفاق الهدنة للعام 1949، وهو اتفاق تطالب إسرائيل بالعودة إليه، لكن بعد إضافة شروط أخرى يظهر أنّها مصرة عليها منذ فترة طويلة.
لا خيار آخر أمام لبنان، في حال كان يريد بالفعل إعادة بناء نفسه والعودة إلى لعب دور على الصعيد الإقليمي غير تجاوز موضوع سلاح «حزب الله» والتفكير، من الآن، في كيفية الانتقال إلى مرحلة ما بعد زوال هذا السلاح الذي لم يحم البلد بل تسبب له في سلسلة من الكوارث. حصل ذلك بالتفاهم الضمني مع إسرائيل في أحيان كثيرة.
لن يكون أمام لبنان غير خيار إعداد نفسه لمرحلة ما بعد سلاح الحزب الذي لم تكن له في يوم من الأيام سوى جهة استخدام واحدة هي الداخل، وصولاً إلى العمل على تكريس احتلال إسرائيل لمواقع في الجنوب... مروراً باغتيال رفيق الحريري ورفاقه وشخصيات لبنانية أخرى من أجل تكريس آنتصار ثقافة الموت على ثقافة الحياة.
ليس طلب تحديد جدول زمني لإزالة سلاح الحزب طلباً أميركيّاً وإسرائيلياً. إنّه طلب الأكثرية اللبنانية أولاً. تلك الأكثرية التي تحلم بانتصار ثقافة الحياة وعودة لبنان إلى الحضن العربي بديلاً من الحضن الإيراني.
باختصار شديد لا وجود لأي مصلحة تجمع بين لبنان وإيران في الظروف الراهنة. لكل بلد من البلدين مصلحته. أولوية لبنان تتجاوز مرحلة سلاح الحزب الذي لن يكون ممكناً إعادة تأهيله.
يعود ذلك إلى القرار الإسرائيلي بالتخلص من التفاهمات التي كانت تتحكم في العلاقة بين الحزب والدولة العبريّة، أي ما يعرف بـ «قواعد الإشتباك». كما يعود إلى التغيير الكبير الذي حصل في سوريا.
قطع النظام الجديد في سوريا الطريق على إمداد الحزب بالسلاح والمال. سيكتشف الحزب أنّ لا مفرّ من هذا الواقع وسيكتشف أنّ عليه العيش في لبنان جديد مختلف.
لن يكون أمام لبنان الجديد غير التفكير في ما عليه عمله، إن بالنسبة إلى التعاطي مع سوريا، وإن بالنسبة إلى التعاطي مع إسرائيل وتحديد طبيعة العلاقة بها في حال كان يسعى بالفعل إلى استعادة المواقع الخمسة المحتلة... وفي حال كان يريد بالفعل الخروج من دور الرهينة الإيرانية ومن عقدة الخوف من شبح 7 أيار (مايو) 2008!