تغريد إبراهيم الطاسان
في خطوة استراتيجية تعبّر عن نضج التجربة التعليمية ورغبة حقيقية في التقييم والتطوير، أقرّ مجلس الوزراء عودة نظام الفصلين الدراسيين في مدارس التعليم العام، بدءًا من العام الدراسي 1447-1448هـ، ولمدة أربع سنوات قادمة.
يأتي هذا القرار بعد ثلاث سنوات من تطبيق نظام الفصول الدراسية الثلاثة، الذي حمل في طيّاته العديد من الإيجابيات، لكنه فرض تحديات ميدانية واجتماعية لا يمكن تجاهلها، مما استدعى مراجعة متأنية واتخاذ قرار يُعيد التوازن إلى النظام التعليمي في المملكة.
القرار الجديد لا يعني التراجع، بل هو تعبير عن المرونة الإدارية وقدرة المنظومة التعليمية على التقويم الذاتي والتفاعل مع متطلبات الواقع.
فالتنظيم لأربع سنوات قادمة يبعث برسالة واضحة: إن الاستقرار في النظام الدراسي ركيزة أساسية لتحقيق جودة التعلم، وضبط الأداء، وتعزيز التخطيط طويل المدى للمدارس والمعلمين وأولياء الأمور على حد سواء.
ومن أبرز ملامح القرار أن كل فصل دراسي سيمتد إلى 18 أسبوعًا، وهو ما يمنح وقتًا كافيًا لتقديم المناهج بصورة متزنة، بعيدًا عن الإسراع أو الحشو، ويسمح بترسيخ المفاهيم وتعزيز العمق المعرفي لدى الطلاب.
كما يفتح المجال أمام تنويع الأنشطة التعليمية والتطبيقات العملية، وتحقيق التكامل بين الدروس النظرية والممارسات الميدانية، بما يواكب مستهدفات رؤية المملكة 2030 في بناء طالب واعٍ، متمكن، ومحبّ للتعلم.
هذا القرار يحمّل كل جهة تعليمية مسؤوليتها بوضوح. فالمدرسة لم تعد أمام نظام متقلب أو تجريبي، بل أمام جدول زمني واضح ومستقر، مما يستدعي استثمار كل أسبوع وكل يوم في تحقيق الأثر.
على إدارات المدارس أن تضع الخطط والبرامج التي تعزّز من جودة التعليم داخل الفصل، وتخلق بيئة تعليمية محفّزة، تشجع الطالب على التفاعل، والانخراط، والإنجاز، وتمنع تسرّب الملل أو التراخي خلال الأسابيع الطويلة نسبيًا.
أما المعلم، فهو المحور الأساسي في هذا التحول. إن طول الفصل الدراسي يمنحه الفرصة لتطبيق استراتيجيات تعليمية أكثر فعالية وتنوعًا، تسمح له بمتابعة الفروق الفردية بين الطلاب، وتقديم الدعم الأكاديمي والتربوي الملائم لكل حالة.
ولم يعد هناك مبرر للاعتماد على الطرق التقليدية المملة في التعليم، بل أصبح مطلوبًا أن يتحول الفصل إلى ورشة عمل معرفية، تدمج بين التلقين والتفاعل، بين التعليم والتجريب، وبين المادة الدراسية والحياة الواقعية.
وفي الجانب الآخر، يأتي دور ولي الأمر بوصفه شريكًا أساسيًا في إنجاح هذا التنظيم. فمع العودة إلى الفصلين وطول مدة الدراسة، بات لزامًا على الأسرة أن تدرك أن الانتظام في الحضور ليس ترفًا، بل ضرورة قصوى، وأن الغياب أو التهاون في بداية أو نهاية الفصول يضعف من جدوى الفصل الدراسي كاملاً. الأسرة مطالبة ببناء عادة الالتزام لدى الطالب، وربطه بأهمية الاستفادة من كل يوم دراسي، بما يعزّز المسؤولية والانضباط الذاتي لديه.
من جهة أخرى، فإن القرار يعيد التوازن إلى الإيقاع الزمني للأسرة السعودية. فبعد سنوات من تكرار التقويم وتجزئة الإجازات وتوزيع الجهد الذهني والنفسي على ثلاثة فصول، تأتي العودة إلى فصلين لتمنح الجميع - طالبًا، ومعلّمًا، وولي أمر - فرصة أفضل للتخطيط، والاستعداد، والاستقرار.
جدير بالذكر أن العودة إلى الفصلين لا تعني بالضرورة العودة إلى ما كان عليه النظام سابقًا قبل 3 سنوات، بل إن الفرصة الآن مواتية للاستفادة من التجربة السابقة، وأخذ ما كان فيها من إيجابيات، مثل التوزيع المرن للمناهج، وكثافة الأنشطة، والتقييم الدوري، ومحاولة دمجها ضمن نظام الفصلين بأسلوب أكثر نضجًا وتطورًا.
في المحصلة، فإن القرار يُعدُّ نقطة تحول مهمة، لأنه لا ينظر فقط إلى كمية التعلم، بل إلى جودته. وهو يفتح بابًا واسعًا لإعادة تشكيل مفهوم العام الدراسي، من كونه مجرد زمنٍ للدوام إلى كونه مشروعًا متكاملًا لبناء إنسان قادر على التفكير، والإبداع، والتأثير.
وبين معلم مُلهم، ومدرسة واعية، وأسرة داعمة، نستطيع أن نجعل من نظام الفصلين الدراسيين منصة حقيقية لتحقيق قفزة في مستوى التعليم، تعيد للمدرسة هيبتها، وللحصة قيمتها، وللتعليم أثره الحقيقي في بناء الإنسان.