: آخر تحديث

مصطفى كمال وابن رشد والغزالي

4
3
3

تصدى كتّاب ومفكرون وفلاسفة، عرباً ومسلمين وأجانب، لأسباب تخلُّفنا، بعد أن كنّا، لقرون، مصدر إشعاعٍ للعالم أجمع، فأصبحنا مصدراً للظلم والتخلف.

أرجع البعض سبب مكانتنا المتدنية إلى تركنا الدين جانباً، متناسين أنه خلال أوج حضارة دار الإسلام، كان التمسك بأهداب الدين في أضعف مراحله، ومع هذا أبدع العلماء في عشرات المجالات، من دون قيود دينية، عنصرية أو مذهبية.

وزعم غيرهم أن التراجع بدأ مع خروج المسلمين من الأندلس، وادّعى آخرون أن السبب أقدم من ذلك، ويعود إلى عدم استمرار تسلسل الخلافة بشكلها الصحيح، أو بسبب انهيار دولة الخلافة العثمانية، أو بسبب التخلف الذي أصابنا خلال حقب الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي، علماً بأن تخلفنا سبق ذلك بكثير، كما أن عشرات الدول وقعت، مثلنا، تحت نِير الاستعمار، ومع هذا لم يستمر تخلّفها كما كان الحال معنا، ولا يزال.

الأغلبية تعتقد أن لكل هذه الأسباب، وغيرها، كوعد بلفور، وتقسيمات «برسي كوكس»، وقبلها اتفاقية سايكس–بيكو، وتوالي الانقلابات العسكرية، وما تبعها من ظهور الأصولية الدينية، وتجاوب النظام التعليمي المتخلف معها، والفراغ العلمي والثقافي، الذي غطّى دولنا بكثيف عباءته، ساهمت جميعها في تخلفنا، لكن غيرهم يرى أن هذه الأمور ما كانت إلا نِتاج ذلك، وليس بالضرورة الأسباب التي أوصلتنا إليه.

* * *

يبدأ الإنسان صغيراً وجاهلاً، فيكبر ويتعلم ويفطن، كما يبدأ، بشكل عام، مُعدماً، فيعمل ويكسب، ومن يفشل في أن يتغيّر ويترك فقره وجهله وراءه، ولا يسعى لكسب المعرفة والخبرة، يبقى عادةً في مكانه، أو يتدهور وضعه، عقلياً وصحياً واجتماعياً واقتصادياً، فتسهل سيطرة الآخرين عليه، حتى لو امتلك، بطريقة ما، وفي فترة ما، الكثير من الصحة أو المال، فغالباً سيفقدهما، لقلة معرفته. هكذا كان تاريخ الأفراد والمجتمعات والأمم.

العرب المسلمون ورثوا الكثير، لكنهم لم يتطوروا ولم يسايروا الزمان، إلا خلال فترة قصيرة، لم تتعدَّ القرنين بكثير، ثم عادوا للجمود ورفضوا التغيير، الذي شمل العالم أجمع، بعد أن تغلب مؤيدو النص على مؤيدي العقل! فالمسلمون، بخلاف أتباع بقية العقائد، وبالذات اليهودية والمسيحية، يؤمنون بأن ما بين أيديهم «منزَّل» مباشرةً، من دون وسيط، من عند الله، لا ريب في ذلك. وهذا ما لا يقوله الآخرون، بل يُقِرّون بأن كلَّ كتبهم، إما موحاة أو منقولة أو تُنسَب نصوصها لأنبياء وأحبار وكهنة، وبالتالي لم يكن صعبًا عليهم، ولو بعد فترة طويلة، التعديل والتغيير في مفاهيمهم الدينية، ومسايرة الزمن، فتخلصوا من قيود معيقة كثيرة، وطوّروا مفهومهم العقائدي لخدمة أتباعهم، فحققوا التقدم بعد الآخر.

لا نص إسلامياً واضحاً ومتفقاً عليه من الجميع، وفق فهمي، يُخالف التطوير والتغيير ومسايرة العصر. وأصلاً، الضرورات تبيح المحظورات، وهذا ما فعله الخلفاء، حيث سايروا عصرهم، وحرَّموا أموراً وأحلوا غيرها، ومن الأمثلة وقف قطع يد السارق في عام الرمادة، أو المجاعة الكبرى، ووقف دفع حصة «المؤلفة قلوبهم»، وغير ذلك من أمور كانت يوماً من صلب العقيدة فأصبحت منسية. كما أن أمامنا عشرات أو مئات الطقوس، التي يؤديها أتباع مختلف المذاهب، من شافعية وحنابلة ومالكية وأحناف، وإثني عشرية، وغيرهم الكثير، يؤديها كل طرف بطريقة مختلفة عن غيرهم، وجميعهم يعتقدون بأنهم مسلمون، وبصوابية أفعالهم، سواء ما تعلق بطقوس الزواج أو المهر أو النفقة أو الميراث، أو الصلاة أو إخراج الزكاة، ومئات الأمور الخلافية الأخرى. فكيف تقبّلناها مع الزمن وتعايشنا معها، ورفضنا تغيير أو تطوير ما هو أقل منها أهمية بكثير؟!

إذاً مشكلتنا تكمن في إصرارنا على التمسك بالجمود، والبقاء، لأكثر من ألف عام، داخل القالب نفسه والفكر نفسه والفهم نفسه والتصرف نفسه، دون تغيير ولو طفيفاً، راضين بحجج الغزالي والشافعي على مواقف وآراء الفارابي وابن رشد، رافضين إعطاء العقل مكانته اللائقة، بعد أن مُنع المسلم من إعادة تشكيل وتطوير نفسه وفهمه للحياة، فتخلفنا أفراداً ومجتمعات، فأصبنا بالضعف، وسهل على الغير التحكّم بنا، فالجمود لا ينتج عنه سوى التخلف، وربما نحن بحاجة لمارتن لوثر مسلم، أو لمصلح بحجم مصطفى كمال، يعيدنا إلى صفوف الأمم المتقدمة، كما فعلت تركيا.


أحمد الصراف


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد