لا يمكن أبداً فصل مشهد الاستهداف الإسرائيلي للعاصمة القطرية الدوحة، وتحديد مقر اجتماع قيادات حركة حماس، عن مسرح الأحداث والمجريات السياسية المتلاحقة؛ الذي ارتسم ما قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) العام 2023.
تعقيد المشهد وتشابكه بدأ بالجمع بين فكرين أيديولوجيين يمينيين يملكان تناقضات العداء بينهما، ويستمدان سرديتهما القائمة في جوهرها على القضاء كل منهما على الآخر، فلم تحقق المعادلة التي سعى ساسة قطر لتكريسها، خاصة وأن التفاهمات التي عُقدت بين حكومات بنيامين نتنياهو المتعاقبة وحركة حماس قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، عالجت الشق الأمني مقابل دعم مادي تموله قطر، لحفظ صيغة سلمية بحدها الأدنى متفق عليها بين طرفين بعيداً عن المسألة السياسية، يضمن عدم تجدد سيناريوهات الحرب.
لم يكن خافياً، منذ لقاء حمد بن جاسم مع الراحل شمعون بيريز في بيت السفير القطري عام 1993، التوجه القطري لبناء علاقات مع دولة إسرائيل؛ قائمة على مصالح بمعطيات سياسية بلمسة اقتصادية تجارية، استثمرتها الدوحة لتوسيع لوبي يقوي جسور تواصل مع شخصيات إسرائيلية، بصرف النظر عن خلفيتها الحزبية، مما منح الدوحة أوراق التعامل مع مجمل حكومات تل أبيب على مختلف الأصعدة والمنعطفات التي مر بها الإقليم؛ ابتداءً من اللحظات الأولى لحصار الرئيس الراحل ياسر عرفات، مروراً بالحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، وصولاً إلى انقلاب حماس في قطاع غزة، والحروب الستة التي تلته.
بالمقابل، تتجسد حقيقة العلاقة القطرية الحمساوية، بتصريحات لرئيسي وزراء قطر، حمد بن جاسم، ومحمد بن عبد الرحمن آل ثاني؛ اللذين أكدا بأن الوجود الحمساوي في الدوحة، جاء بناءً على طلب أميركي، لفتح قنوات اتصال غير مباشر لتحقيق تهدئة كلما احتاج الوضع الشائك داخل الأراضي الفلسطينية، مقابل تقوية الحركة إعلامياً وتعظيم قدراتها لتنافس بشكل متوازٍ الكيانية السياسية الشرعية الفلسطينية التي تشكلت نتاج اتفاقية أوسلو، كجزء من مشروع قطري أكبر ساعٍ لخلق نفوذ داخل الدول العربية عبر جماعة الإخوان المسلمين.
هذه عناوين مختصرة لتوصيف العلاقة بين قطر واليمينين الإسرائيلي والفلسطيني، التي انقلبت رأساً على عقب بسبب هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، فشقت طريق الوساطة مجدداً بينهم بدعم أطراف دولية على رأسها الولايات المتحدة بالشراكة مع جمهورية مصر بحكم موقعها الجيوسياسي مع قطاع غزة.
محطتان فاصلتان أثرتا على مسار دور الوساطة القطرية في الحرب المستمرة بسبب تعنت اليميني الإسرائيلي والفلسطيني؛ الأولى: تداعيات ما سمي فضيحة "قطر غيت"، والتي أضيفت على أجندة القضايا التي يحاكم عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. أما المحطة الثانية: تصاعد الانتقادات من قبل وزراء في حكومة نتنياهو، الذي تعمد تسريب تسجيل صوتي، اعتبر به الدوحة وسيطاً يمثل "إشكالية" بسبب استضافتها لقادة حماس، ولم يكتفِ نتنياهو بذلك بل جيَّش أعضاء داخل الكونغرس الأميركي دعوا لإعادة تقييم علاقة الولايات المتحدة مع دولة قطر، مما حذا بالدوحة إلى الإعلان عن مراجعة في دورها في ملف الوساطة.
تنامي خصومة بنيامين نتنياهو ومن خلفه منظومة اليمين الإسرائيلي لدولة قطر، يأتي في سياق الرد على سياسات شبكات الدوحة الإعلامية التي سوقت انتصارات حماس وسيناريوهات سقوط حكومته أمام الشارع الإسرائيلي المنقسم حول بقائه في منصبه، والذي بات يبحث عن إنجازات تستطيع منحه تفوقاً على منافسيه في الانتخابات البرلمانية المقبلة.
ما سبق، يضع ساسة قطر أمام حقيقة قصور دبلوماسيتهم في إيجاد مقاربة سياسية قادرة على الحد من عواصف أنظمة وميليشيات أيديولوجية يمينية في المنطقة، فدفعوا أول أثمان هذا القصور بقصف إيراني للقاعدة الأميركية (العديد) المتواجدة على أراضيها.
وسط المشهد الضبابي اليوم، تدور الحقائق في فلك مصير قادة حماس المستهدفين؛ من نجا.. ومن أُصيب.. ومن اغتيل؟.. فهل الكشف عن ملابسات ما جرى، استحق دفع ساسة قطر ثمناً آخر نتيجة سياساتهم في المنطقة؟
تداعيات ما يجري منذ سنتين، لن تقف فقط عند قصف الدوحة أو طرد بقايا قيادات مكتب حماس السياسي من أراضيها، بل الاستمرار في دعم وترويج عبث حركة حماس العسكري والسياسي لكسب شعبوية عربية زائفة، وعقد تفاهمات مبتورة في الغرف المغلقة مع حكومة نتنياهو، ينذر بمزيد من التأزيم السياسي، مما يتطلب تخلي قطر عن السعي لإيجاد نفوذ سياسي لها داخل مساق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
مراجعة سلوك الدوحة في استمرار منحها منصة ومقراً لحركة حماس تحت مسوغ طلب الولايات المتحدة ذلك، لن يخدم قضية الشعب الفلسطيني العادلة، وفي الجهة المقابلة ضرورة خفض وتيرة العلاقات مع دولة إسرائيل وأقطاب حكوماتها لفسح المجال أمام ما تقوم به المملكة العربية السعودية بالشراكة مع دول أوروبية وعربية وازنة لتحقيق السلام في المنطقة وفق حل الدولتين المبني على أسس قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.