: آخر تحديث

معنى الفقد: حين يرحل الطيبون

4
3
3

"ليس الموت فناءً، وإنما هو ارتحالٌ من ساحةٍ ضيقة إلى فضاءٍ أرحب... وليس الوداعُ إلا امتحان الذاكرة في مواجهة الغياب".

قد يكون الفقد حدثًا طارئًا على مسرح الحياة، لكنه أحد أعمدته الراسخة، التي يقوم عليها الشعور الإنساني. إنه اللحظة التي يُختبر فيها صدق الحب، وعمق الصحبة، ونبل العشرة. لكن، ما أشدّه حين لا يطال الغرباء أو العابرين، بل أولئك الذين كان لوجودهم معنى، ولغيابهم فراغ لا يُملأ.

ومن عسير الكتابة ما يُكتب عن الفقيد، لا حين تنعيه العادة أو يفرضه الواجب، بل حين يُرغمك الحزن، ويقودك القلب إلى سطورٍ تعلم مسبقًا أنها لن تفيه، ولن توازيه. وهكذا وجدتُني اليوم أمام سعود بن عبدالعزيز العتيبي، أكتب عنه بوصفي عاشقًا لفكرة النبل وقد تجسدت فيه.

في ثقافتنا الحديثة، يُقاس الإنسان بما جمع، وما صعد إليه من المناصب، وما خَلّف من منصورٍ وظهور. غير أن ميزان القلوب لا يعترف بهذه الأرقام؛ لأنه لا يعرف إلا الأثر.

لقد كان "أبو طلال" من أولئك الذين عبروا الحياة خفيفي الخطى، عِظام الأثر. رجلٌ لم يكن بحاجة إلى صراخٍ ولا ادّعاء؛ وإنما كان حضوره حديثًا صامتًا عن الأخلاق. لم أره يومًا يخاصم أحدًا، ولا يتصدر مشهدًا. ومع ذلك، كانت له الصدارة في المحبة، والمكانة في القلوب.

ما من لقبٍ يليق بسعود أكثر من "الطيب". إنه ذاك الطيب الذي إذا دخل مجلسًا ملأه سكينة، وإذا حضر اجتماعًا خفّ فيه التوتر، وإذا كُلف بمهمة، أنجزها في صمتٍ واتزان.

لا أكتب عن زميلِ عمل فحسب، بل عن رجلٍ لازمته ثلاثة عقود، لم أرَ منه فيها إلا الوفاء، ولم أسمع عنه إلا الصدق، ولم ألمس فيه إلا التواضع الجمّ. مدير تحرير الشؤون الرياضية في مجلة اليمامة، لم يكن مديرًا بقدر ما كان أخًا وأبًا وأمينًا على الكلمة والموقف.

أي لغةٍ هذه التي تقدر على احتواء نبلك يا أبا طلال؟ كلما هممتُ بالكتابة، أجد البلاغة تستقيل، وتعلن عجزها أمام سيرةٍ لا تحتاج إلى زخرفة الكلام، لأنها كانت هي البلاغة في هيئة بشر.

وقد استعرت من أستاذي فهد العريفي كلماته، لأنها ببساطة قالت ما تعجز عنه حروفي:

"أُشهد الله أنك التواضع كله، ولين الجانب كله، ونقاء السريرة كله، وطيب القلب كله، وصدق المعشر كله...".

فمن نحن لنرثي من كان حيًا فينا بصفاته، حاضرًا في قلوبنا بفعاله؟ رحمك الله يا سعود... لقد كنت جميلًا، حتى في وداعك.

قد يُنسى الاسم في ضجيج العالم، وقد تمضي الأيام فتجرف معها الملامح، لكن هناك من الناس من تسكن ذكراهم في نخاع القلب، فلا تموت، ولا تُنسى، ولا يعتريها الصدأ.

وسعود العتيبي من هؤلاء. ستبقى قصصه تُروى في المجالس، ومواقفه تُذكر في كل وقت، وستبقى قلوب محبيه عامرة بذكراه، لأنه كان قريبًا من الأرواح لا فقط من الأبصار.

قد ترحل الأجساد، وقد تنطفئ الأنفاس، لكن من عاش نقيًا، طيبًا، نزيهًا، لا يُودّع، بل يُخلّد.

سلامٌ عليك يا أبا طلال، يوم وُلدت، ويوم عشت بيننا أخًا نقيًا، ويوم رحلت عن هذه الدنيا، تاركًا خلفك ما لا تمحوه الأيام. رحمك الله، وغفر لك، وجعل مثواك في الفردوس الأعلى، وكتب لك أجر من علّم، وواسى، وابتسم، وساعد، وغاب وقد ملأ القلوب محبة.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.