: آخر تحديث

بوتين بين أغنية القوة وكارثة الأرقام: أوكرانيا تكشف وهم القوة الروسية

3
2
2

في رواية "الشياطين" لفيودور دوستويفسكي، تُروى أسطورة عاملٍ روسي اقتلع صخرة من وسط الشارع بعرق جبينه وذكائه الروسي، فيما عجزت عنها الآلة. اليوم، يحلم الرئيس فلاديمير بوتين بدورٍ أكبر من ذلك العامل الأسطوري: أن يكون مغنيَّاً جيواستراتيجياً.

في عام 2010، وقف بوتين كرئيسٍ للوزراء على مسرحٍ خيري يغني "أغنية تلال التوت الأزرق" أمام كوكبة من نجوم هوليوود، واليوم بعد خمسة عشر عاماً، يقف كرئيس ليحاول غناء لحن التفوّق العسكري الروسي، لكن هذه المرَّة على مسرح أوكرانيا، حيث لا تصفق الجماهير، بل تُحرق المدن.

بوتين يرى أوكرانيا كحفلٍ خيري رعاه الاتحاد السوفييتي الراحل، وكـ"صخرة جيواستراتيجية" تطمع أوروبا بقراءتها خلسة على سُلَّم الناتو الجيوسياسي. حتى وزير خارجيته سيرغي لافروف أكّد هذه الرؤية حين حذّر كييف، في آب (أغسطس) 2025، من أن رفض الحياد والانضمام إلى الناتو سيجعل "الاعتراف باستقلال أوكرانيا يتبخر".

بوتين الذي قاد طائرة في حرب الشيشان، وامتطى دبابة في شوارع جورجيا، وجال في سيبيريا عاري الصدر، يعيش مأساة البحث عن حنجرة القوى العظمى. في عام 2018 غنى عبارته الشهيرة: "لا حاجة للعالم إن لم تكن روسيا موجودة." اليوم، تحاول كييف أن تلقّنه لحناً آخر: لا حاجة للعالم إلى روسيا إذا اختارت أن تكون مجرد آلة دمار.

ادمان الماضي والفرار من الحاضر
سقوط جدار برلين في التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 كان بمثابة إعلان وفاة سريرية للاتحاد السوفييتي، استقالة ميخائيل غورباتشوف عام 1991 أغلقت النعش نهائياً، لكن بمسامير من أحجار برلين المتساقطة.

قبل أن يصل بوتين إلى مسرح أوكرانيا الحالي، احتاج إلى بروفة حمراء لصناعة صورة الزعيم الذي لا يُقهر. جاءت حروب الشيشان في التسعينيات لتكون تدريبه العملي الأول على طريق الغزو الأكبر (أوكرانيا).

تحولت المعارك هناك إلى ميدان قوقازي للرماية الجيوسياسية، دفع ضريبتها مسلمو الشيشان الذين يعيشون في قطعة منسية من جنوب القوقاز، حتى انتهت "المرحلة الرئيسية" من الحرب الثانية في نيسان (أبريل) 2000، ليصعد بوتين إلى الرئاسة بعد شهر واحد فقط.

المفارقة أنَّ حرب الشيشان أنجبت تعبير "العمليات الخاصة". ثم جاءت جورجيا عام 2008 لتشكّل ميداناً آخر، أقل قوقازية وأكثر أوروبية، حيث اقتُطِعت أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية لصنع شرفة روسية، تسمح بقراءة ردود الفعل في واشنطن وبروكسل عن قرب.

عمليات الكرملين الخاصة وصلت أوكرانيا عام 2014، لتكون ورشة البناء الأخيرة لجدار برلين الروسي الجديد. اتفاقيتي مينسك الأولى والثانية (2014 و2015)، برعاية الترويكا الأوروبية، لم تتمكنا من إخراج أوكرانيا من جدار برلين الروسي. لذلك أطلقت موسكو في شباط (فبراير) 2022 "عملية خاصة" جديدة ضد أوكرانيا، لكنها أضافت إليها وصفاً جديداً: "سريعة".

ومع ذلك، وبعد ثلاث سنوات ونصف، لم تكن العملية سريعة بأي مقياس أوكراني. على العكس، تسير روسيا سريعاً نحو الهاوية، بينما تُبطئ الدعاية الروسية المشهد لتجميل الخسائر.

التقديرات الأوكرانية في آب (أغسطس) 2025، تشير إلى أنَّ الخسائر البشرية الروسية تجاوزت المليون بين قتيل وجريح، فيما قدّرت مصادر أكثر تحفظًا الرقم بـ 800 ألف، لكن الجميع يتفق على أن رقم المليون سيصبح قديماً مع نهاية الصيف.

بصورة عامة، يبلغ عدد الضحايا الروس خمسة أضعاف الخسائر الأوكرانية، وهو أعلى من كل الحروب السوفييتية والروسية مجتمعة، بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الغزو الواسع لأوكرانيا عام 2022. بل إنَّ الخسائر الحالية تفوق بعشرة أضعاف ما خسرته روسيا، في حروب الشيشان خلال 13 عاماً.

إحصاءات تموز (يوليو) 2025، تُبيَّن تقدم روسيا بمعدل 50 متراً يومياً في مناطق مثل خاركيف، بينما كان الاتحاد السوفييتي يتقدم في معركة لينينغراد عام 1943 بمعدل 1,000 متر يومياً.

هذا الضغط الهائل على القوات الروسية، دفع موسكو منذ منتصف حزيران (يونيو) 2025، إلى تجنيد 1,000 جندي يومياً، أي ضعف المعدل الذي تقوم به أوكرانيا، وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز.

خسائر المعارك: أرقام لا يصطادها الإعلام
أندريه كارتابولوف، رئيس لجنة الدفاع في الدوما (الغرفة التشريعية الروسية الدنيا)، هدد في 20 آب (أغسطس): "إذا لم تستجب أوكرانيا لكل المطالب الروسية في مفاوضات السلام، فإنَّ القادة الأوكرانيين سيكونون مجبرين على الإصغاء إلى لغة الحربة الروسية".

لكن لغة الحربة لم تمنع روسيا من تكبد خسائر عسكرية هائلة:

22,540 آلية ومعدة عسكرية مدمرة.

13,145 دبابة وآلية مدرعة محطمة.

إسقاط 332 طائرة و340 مروحية.

تدمير 49,620 مسيّرة.

فقدان 22 سفينة بحرية.

إطلاق أكثر من 3,500 صاروخ كروز دون تحقيق أهداف حاسمة.

رغم هذه القوة النارية، لم تفلح الحربة الروسية في منع انكماش الاقتصاد؛ إذ تراجع النمو من 5.6 بالمئة عام 2022 إلى توقعات لا تتجاوز 0.9 بالمئة في عام 2025. الأرقام أعلاه لا تشمل سوى الخسائر الموثَّقة بالصور والفيديوهات.

الآلة العسكرية الروسية اضطرت أيضاً، إلى الاستعانة بذخائر كورية شمالية، ومخزونات سوفييتية قديمة، إضافة إلى مسيّرات إيرانية لتعويض النقص. هذه المؤشرات مجتمعة تكشف أن روسيا بحاجة إلى صفقة سلام أكثر تطوراً من ترسانتها العسكرية؛ على الأقل هذا ما أظهرته عملية "شبكة العنكبوت" الأوكرانية في الأول من حزيران (يونيو) الماضي.

على الصعيد الإنساني، دفعت الحرب الأوكرانية نحو 182 ألف روسي إلى النزوح الداخلي، بينما غادر نحو 800 ألف شخص البلاد لأسباب اقتصادية أو سياسية، أي ما يعادل 0.6 بالمئة من عدد السكان. كما كشف تحقيق استقصائي في آذار (مارس) 2024، أنَّ الضربات الأوكرانية عطّلت ما يقارب سدس المنشآت الروسية، المسؤولة عن إنتاج البنزين وزيت الغاز، ما زاد من الضغط الاقتصادي على موسكو.

حلفاء مرشحون للشطب الجيوسياسي
الصحافي الروسي يوري كوتيونوك اعتبر أنَّ الحرب الإسرائيلية ضد إيران، التي بدأتها بضربة جوية ساحقة في 13حزيران (يونيو) الماضي، قد "شطبت إيران من الخارطة الجيوسياسية". أما سوريا، الحليف التقليدي لموسكو فقد سقطت بدورها من الحسابات، في 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024.

أرمينيا بدورها دفعت ثمن اعتمادها المفرط على قوات حفظ السلام الروسية؛ فبعد حرب اليومين مع أذربيجان في أيلول (سبتمبر) 2022، خسرت ناغورنو كاراباخ  واضطر رئيس حكومتها إلى الارتماء في الحضن الأمريكي. وفي 8 آب (أغسطس) الماضي، وقّعت يريفان وواشنطن صفقة استراتيجية مع الرئيس دونالد ترامب، نقلت بموجبها أرمينيا جزءاً مهماً من جنوب القوقاز إلى ما وراء الأطلسي سياسياً.

مجموعة فاغنر الشهيرة والتي كانت تُعد دُرّة التاج العسكري غير الرسمي لروسيا، بدأت شمسها هي الأخرى بالأفول في القارة الإفريقية. في 10 حزيران (يونيو) 2025، أعلنت انسحابها النهائي من مالي، ليحُلَّ محلها تشكيل أكثر رسمية تحت اسم "الفيلق الإفريقي" الروسي.

القصة طبعاً أعمق من مجرد تبديل الأسماء. تكبّدت فاغنر هزائم فادحة، إلى جانب الجيش المالي، أمام الطوارق والجماعات المسلحة الأخرى. أما الجزء غير المعلن من الرواية فهو أن جنود فاغنر ارتكبوا انتهاكات وحشية دفعت غالبية سكان شمال مالي إلى الارتماء في أحضان الانفصاليين.

المثير للاهتمام أن العاصمة باماكو ترغب ببقاء فاغنر، ولا تريد علاقة وثيقة مع "الفيلق الإفريقي"، ما يشير إلى أن فاغنر عنصر مربك داخل هرم المؤسسة العسكرية الروسية، ولديها مصالحها الخاصة التي قد تتعارض مع أولويات موسكو نفسها.

تراجع نفوذ موسكو في إفريقيا وخسارتها أوراق فاغنر هناك، يدفعنا إلى وضع احتمالات تقليدية ساخنة لعدم نجاح قمة ألاسكا في 15 آب (أغسطس) الماضي، حيث انتظر الجميع اتمام صفقة سلام أمريكية، بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس بوتين. مثلاً، موسكو ستعود للبحث عن أوراق قوة كلاسيكية في الشرق الأوسط اسمها إيران.

الخبير العسكري ماجد القيسي يرى إنَّ "فشل صفقة السلام الأمريكية التي جرى الإعداد لها في المطبخ الأمريكي قد تدفع موسكو إلى تعزيز دعمها العسكري لإيران، وما يعنيه ذلك من تمكين حلفائها في المنطقة".

هذا التراجع المتسارع في النفوذ الروسي، سواء في إفريقيا أو القوقاز أو سوريا، ينعكس بدوره على موازين القوى في الشرق الأوسط. روسيا كانت تُسوِّق نفسها وباستمرار كضامن لتوازنات المنطقة، لكنها تبدو اليوم أضعف من أن تدير ملفات كبرى كالاتفاق النووي الإيراني أو مستقبل سوريا.

دول الخليج العربي تراقب أيضاً انكماش الدور الروسي في الشرق الأوسط، وهو لا يقل أهمية عن متابعتها مجريات الحرب في أوكرانيا، لأن ذلك يغيّر قواعد اللعبة الإقليمية، ويفتح المجال أمام واشنطن وبكين لإعادة رسم النفوذ في المنطقة على حساب موسكو.

الخلاصة الروسية: خطابات نارية وأفعال خامدة
الخطابات النارية للرئيس بوتين، تصاعدت بعد لقائه بالرئيس ترامب، ولقاء الأخير مع القادة الأوروبيين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. تلك الخطابات لا تحرق أصابع أحد، لكنها تمثل رهاناً محفوفاً بالمخاطر؛ فهي ترفع سقف التهديدات وفي الوقت نفسه تُضيّق هامش الفرص أمام موسكو.

الخبير القيسي استبعد تماماً "إمكانية قبول أوكرانيا، سياسياً أو شعبياً، بأي تنازلات في إقليم دونباس". والسبب " إنَّ ذلك سيكون مكافأة صريحة للعدوان الروسي". كما حذّر القيسي من "الخلط بين القبول بالمفاوضات كمسار دبلوماسي مشروع، وبين القبول بالتنازل عن الأراضي. مؤكداً أن كييف ترى في هذا الخط الأحمر مسألة سيادة لا تقبل المساومة".


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.