في الشارقة، حيث تهمس الرمال بتاريخ عميق، وتقف الكثبان في هيبة الصمت، هناك وُلدت قصة جديدة من قصص الفخر الإماراتي... اسمها «الفاية». ولا نتحدث هنا عن جغرافيا فقط، بل عن ذاكرة حية، عن مكان يُحاكي الإنسان ويختزن في رماله شواهد الحياة الأولى في هذه الأرض.
«الفاية» لم تكن في يوم من الأيام مجرد منطقة صحراوية، بل كانت ولا تزال مأوى للحكاية، وسجلاً مفتوحاً لحقب بشرية تمتد آلاف السنين. تحت أرضها، وُجدت أدوات حجرية تُؤكد أن الإنسان عاش هنا، خطا هنا، وفكر هنا... في قلب الإمارات.
واليوم، ونحن نتابع نبأ إدراج «الفاية» على قائمة التراث الإنساني العالمي من قبل اليونيسكو، لا يسعنا إلا أن نقف في لحظة تأمل ونسأل ما الذي يجعل مكاناً ما يُصبح تراثاً إنسانياً؟ ليس فقط قِدمه، ولا مجرد جماليته، بل ما يحمله من معانٍ، من دلائل، من تأثير في قصة البشر جميعاً.
اليونيسكو، بأعضائها ال193، ليست هيئة تمنح الأوسمة لمجرد الطلب. هي تنظر في العمق، في الرمزية، في التأثير العالمي، وفي الجهد الذي بذلته الدول لحماية هذا الإرث. أن يتم اختيار «الفاية» ضمن هذه القائمة المرموقة، هذا يعني أن الإمارات -كدولة ومجتمع- نجحت في تقديم ملف متكامل، يعكس وعينا بتاريخنا، وحرصنا على حفظه.
إن الوصول إلى هذه اللحظة لم يكن سهلاً. هو ثمرة تخطيط طويل الأمد، بدأ برؤية ثقافية تؤمن بأن حماية التراث ليست ترفاً، بل واجب وطني وإنساني. من مدينة العين التي سجلت قبل سنوات حضورها، واليوم هو يوم «الفاية».
العين و«الفاية» ليسا حدثين منفصلين، بل محطتان في مسيرة ثقافية طويلة، فالإمارات -بتوجيهات قيادتها الرشيدة- كانت وما زالت حريصة على أن تكون الثقافة جزءاً لا يتجزأ من نهضتها، لأن الأمم تُعرف بتراثها، وتُحترم بتاريخها، وتُخلد بما تحفظه من ذاكرة شعبها.
ولا يمكن الحديث عن هذا الإنجاز دون الإشادة بالجهد المؤسسي الكبير، والفرق الوطنية التي عملت بصبر ومثابرة على إعداد الملفات، وجمع الأدلة، وتوثيق القصص، وتقديمها للعالم بلغة يفهمها ويحترمها.
هناك في اليونيسكو، ومن واقع تجربة، عليك أن تشرح أسبابك لكي تتقدم بملف كهذا، عليك أن تُبرر، وعليك أن تروي قصتك.
لنا أن نتخيل رد فعل الشيخ سلطان والشيخة جواهر في لحظة الإعلان، كانت المشاعر أكبر من أن توصف. لم تكن «الفاية» وحدها من ابتسم، بل كل إماراتي يشعر بأن تاريخه حُفظ، وأن صوته سُمع.
أجمل من عبّر عن هذه اللحظة كانت الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، التي ارتسمت على وجهها ابتسامة بلا مدى، صادقة تفيض فرحاً وفخراً.
هذه الابتسامة، لم تكن شخصية، بل وطنية، جامعة، عكست فرحة كل من يعرف قيمة التراث، وكل من يدرك أن الحفاظ على الماضي هو أساس بناء المستقبل. فالتاريخ حين يُكرم يُعيد للإنسان هويته، ويمنحه جذوراً أعمق.
والبدر بالبدر يُذكر، هناك بيت شعر للدكتور مانع سعيد العتيبة يقول:
«حرت من بدرين في شهراً
... بدر فوق وبدرٍ حذايه»
ولكننا اليوم نغني:
«حرت من بدرين في شهراً
بدر فوق وبدر في الفاية».
ما قالت «الفاية»
مواضيع ذات صلة