لعلَّ عبارةَ التوازنِ الاستراتيجيّ أكثرُ العباراتِ استخداماً في السياسة، إلى حدٍّ يوحي بأنَّنا جميعاً نفهمها. من يحبُّ الطبخ يراها توازناً في المكونات دون أن يلغي بعضُها بعضاً، بل لكي تصنعَ طَعماً مرغوباً. المهندسُ يراها خليطاً من الثبات والغرضِ الوظيفي والشّياكة. سائقُ الدراجةِ يعتقد أنَّها الأصلُ الذي تُبنَى عليه الأشياءُ؛ إنِ اختلَّ فلا قيمةَ لما يُبذل من مجهود. نظاراتٌ عدة، لكنها جميعاً صحيحة، تتَّفق على أنَّ التوازنَ لا يعني الوصولَ إلى محصلة صفرية، بل التجهيز لغرض.
لكن كمَا الحال في السياسة دائماً، القولُ أسهل إنجازاً من الفعل. إنْ فردت خريطةً على طاولة القيادة يمكنك أن تتخيَّلَ توازناً استراتيجيّاً محكماً إن تحقّقت شروطٌ معينة. وهذا أشبهُ بإيقافِ لعبةِ فيديو عند نقطةِ ورسمِ خطة، لكن ما أنْ تعيدَ التَّشغيلَ حتى تتوالَى المفاجآت.
المسألةُ أصعب في السياسة لسبب إضافي. ففي اللعبة لا يمنعك مانعٌ عن تنفيذ ما تراه صحيحاً؛ الحاجز الوحيد هو حدود مهارتك وقدراتك. أمَّا في السياسة، فربَّما تعرف التصرفَ الصائب ويكون بمقدورك فعله، لكنَّك مجبرٌ على تجنبه لأنَّه يصطدم بحواجز ثقافية أو برأي عام.
لا نستطيع أن نلومَك. مصائرُ القادة الشجعان، وأحياناً مصائر الدول بعد إقدامهم على خيارٍ صحيح جريء، تقلقك. إن لم تخشَ على نفسك، ستقلق على استقرار البلد. وجودك في موقع المسؤوليةِ أطلعك على أمور لا يطّلع عليها الأميّون والمثقفون، ناهيك عن تشعّب الولاءات والانتهازية السياسية. فتقول لنفسك: ماذا تكسب البلد إن حققت توازناً استراتيجياً حولها وفقدت توازنَها الذاتي؟
ومع ذلك، ليس كلُّ ما يعوق القرار عصياً على المعالجة. فالحاجز الثقافي مرئي ومُدرك، ويمكن تحيُّن الفرصة لإصلاحه بخطوات تدريجية نحو نشر ثقافة عامة تتفهم السياسة. وهنا يبرز دور الإعلام بوصفه فاعلاً استراتيجياً. الأصعب في الإدراك هو الإعجاب المفرط بالرأي، والرغبة المفرطة في ضبط الحذافير لا المتن فقط. في قيادة الدراجة الدرس الأول الذي نسمعه: «استرخِ، لا تدع يدَك تتصلّب في مقود القيادة». فالتَّصلب يضرب التوازنَ في مقتل.
أعضاءُ الفريق الواحد مختلفون في زوايا نظرهم، انطلاقاً من تعدد أنشطتهم، وهواياتهم قبل درجاتهم الأكاديمية، فضلاً عن تجارب حياتهم وصفاتهم النفسية. هذا التَّنوع هو الضامن للقدرة على النظر والتوظيف: هذا سريع، وذلك يصوّب بكلتا قدميه، وتلك تملك حسّاً عالياً بالتوقيت. هكذا يصبح الفريق متوازناً كأنه فرقة موسيقية، لكل آلةٍ إيقاعُها والنتيجةُ انسجام.
لكن ماذا لو اختلَّ هذا التنوعُ تحت ضغط الإعلام الجديد؟ «السوشيال ميديا» عمّقت مثلبةَ الإعجابِ المفرطِ بالرأي. صارَ بإمكان أيّ جهةِ أن تُغرقَ الميدانَ برأي واحد، فيعلو الصَّدى ويترسخ الرضا عن النفس، إلى حدٍّ لا ندرك معه أنَّ الرسالة محدودةٌ، قويةٌ لكنَّها غيرُ مرنةٍ. هذه الظاهرةُ الإعلامية في ذاتها قانون توازن: بدل أنْ كانت القدرةُ على توصيل الرسالة مهارةً نادرة، شاعت فتقلَّصت قيمتُها، وقيمةُ من يملكونها. وولّد ذلك عيباً آخرَ في رسائل الإعلام السياسي، أنَّها فقدت ذلك الشيءَ غيرَ المنظورِ الذي يضيفه الأفراد الموهوبون، العامل الخفي، ما نعجز عن توصيفه في طباخ عن غيره فنسميه النَّفَس. مَلَكة تتجاوز المقادير، ولا تخضع لحسابات الأوزان ولو بالغرامات.
إيجازاً، هناك عاملان يضافان إلى رؤيتنا للتوازن الاستراتيجي على الخريطة، ويصنعان الفارقَ بين السياسي الجيد والسياسي الموهوب ذي النَّفَس. الأول: إدراك محددات الثقافة وتحديد خطوات تدريجية لتحرير القرار منها. والثاني: ألا يقع المسؤول في فخّ احتكار توزيع الرؤى، بل يحرص على أن يكون جواهرجيّاً يدرك فروق القيمة فيما يُعرض عليه ويقتني الثمينَ منها. ففي غياب هذين العاملين، يبدع المسؤولُ في الخطوط العريضة، ويخفقُ في التضبيطات الدقيقة. كلاهما مرتبطٌ بالإعلام.
منطقتُنا تمرُّ بفترة محورية. إن كنت تُفاجَأ أكثر مما تُفاجِئ، فهذه علامةُ خللٍ يجب التعاملُ معها فوراً، لا الانتظار حتى يشتدَّ الدور.