محمد ناصر العطوان
في تلك البلدة التي لا يتذكر أحد، إن كانت قد وُلدت من الضباب أم أن الضباب هو من وُلد منها، جاءه الحلم كضيف ثقيل في ليلة من ليالي القمر العالية. حلم لم يستطع أن يحدد إن كان قد استغرق ساعة أم عاماً بأكمله.
رأى الرجل نفسه في بيت جديد، لم يعرفه من قبل، لكنه عرف في أعماقه أنه بيته... كان البيت واسعاً، جدرانه بيضاء كعظام الموتى المغسولة بالمطر، تتسع جدرانه لأحلام جميع سكان البلدة، ونوافذه المفتوحة على العالم تطل على بحر من الذكريات الزرقاء، كان بيتاً من سلالة البيوت التي تولد وفي نيتها أن تبقى إلى الأبد... لكن ساحته الداخلية كانت المسرح حيث ستُقام طقوس الغرابة.
هناك، بجانب شجرة الليمون التي كانت تحمل ثماراً وزهوراً في الوقت ذاته، ترك الرجل حقيبته. ليست أي حقيبة، بل كانت الحقيبة الخضراء التي يحملها معه في حله وترحاله، خضراء كأعماق الغابة في منامات الأطفال... وفيها كان يقيم عالمه المصغر: أوراق تحمل نبض الأفكار، وآلة سحرية «لابتوب» يُضيء بنصوص لم تُكتب بعد.
ولكن حين عاد، لم يجد حقيبته في مكانها... وجدها، بدلاً من ذلك، في جوف «زير» كبير من الفخار، زير يُستخدم سبيلاً للمارة الذين يشعرون بالعطش. لقد وضعها الناس هناك، وكأنها قربان لغوث ما، أو ربما لأنهم رأوا في خضارها برودة الماء. كان العابرون يغرفون بأيديهم من جوف الزير ويشربون، معتقدين أن الحقيبة هي سر ذلك الماء العذب الذي لا ينضب.
شعر الرجل بموجة ضيق صامتة تغمر قلبه... لم يكن ضيقاً من العطشى، بل من أنهم، وهم يبحثون عن الماء، أفسدوا عالمه المصغر. لقد غمرت المياه الآلة السحرية وحولت الأوراق إلى كتل من الوحل الطري، وكادت أحرفه تذوب لتصبح حبراً في سبيل عام.
لم يصرخ، لم يعاقب أحداً. فقط مَدّ يده، بكل هدوء، داخل جوف الزير البارد... شعر بأصابعه تلامس الجلد الرطب للحقيبة... انتشلها بحركة واحدة، مثقلة بالماء والقصص التي لم تُحْكَ بعد... ثم حملها، وهي تقطر ذاكرته، ووضعها في مكان آخر، في ركن هادئ تحت شجرة الليمون، حيث لا يراها العطشان إلا إذا كان يعرف حقاً كيف يروي عطشه، وكيف يسقي غيره.
وفي الصباح، استيقظ الرجل وهو يحمل طعماً معدنيّاً للضياع في فمه، وبرودة ماء الزير على يديه... لكنه عرف، كما يعرف كل من يرى الأحلام في تلك البلدة، أن الرؤيا نادراً ما تكون تحذيراً، بل هي انعكاس لحقيقة حصلت، مدركاً أن الحلم لم يكن إلا بروفة لواقع كان عليه أن يعيشه، وأن عليه الآن أن يقرر أين سيضع حقيبته في المرة القادمة.
ربما كان الزير هو العالم العام، العطش إلى الإنجاز، والبحث الجماعي عن مصدر الحياة. وربما كانت الحقيبة الخضراء هي ذلك الجزء الخاص جداً منا، الذي نحمله أينما ذهبنا، مليئاً بأدوات صنعنا لمكاننا في العالم. ونحن في سعينا لأن نكون جزءاً من «السبيل»، نضعه أحياناً في متناول الجميع، حتى يأتي من يغرف منه دون أن يعرف أن ما بداخله ليس ماءً عادياً، بل هو عصارة الروح.
والدرس، إن كان هناك درس في حلم كهذا، هو أن على صاحب الحقيبة الخضراء أن ينقذها بنفسه عندما يرى أنها وضعت في غير مكانها... ليس عنفاً، بل بيد هادئة وحازمة. وأن يجد لها ركناً تحت شجرة الليمون، حيث تحميها أوراقها العطرة، وتظل محتفظة بأسرارها، حتى يأتي من يعرف قيمتها، لا ليشرب منها فقط، بل ليزرع بذوراً جديدة في تربتها...
وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.