يعتبر الاستثمار في الثقافة اليوم أحد أبرز المسارات الاقتصادية الصاعدة عالمياً، إذ لم يعد مفهوم الثقافة محصوراً في الفنون أو الفلكلور، بل تجاوز ذلك ليصبح صناعة متكاملة تُحرّك الاقتصاد، وتعيد تشكيل صورة الدول وهويتها، خصوصاً ان هناك تجارب عديدة أثبتت أن المهرجانات والمتاحف والمواقع التراثية يمكن أن تتحول إلى مشاريع استثمارية عملاقة تنمي السياحة، وتفتح فرص العمل، وتُسهم في تعزيز الناتج المحلي.
فعلى المستوى الشخصي حضرت فعاليات وأنشطة ثقافية في مدن عربية وعالمية مختلفة، كانت الفعاليات الثقافية هي المحرك الرئيسي في الحركة الاقتصادية لهذه المدن، كون إبرازها وشهرتها عالمياً جعلت الجميع يتوافد عليها فتزدهر السياحة، وتتحرك الدورة الاقتصادية، وعالمياً الأمثلة والنماذج عديدة، وان كان نموذج مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية هو الأبرز حالياً ، بوجود "كرنفال ريو" الذي يعتبر أحد أكبر الفعاليات الثقافية عالمياً، حيث يجذب ملايين السياح سنوياً، ويضخ أكثر من (مليار دولار) في الاقتصاد المحلي عبر قطاعات السياحة، والفنادق، والنقل، والصناعات الإبداعية المرتبطة بالحدث، هذه النماذج تكشف أن الاستثمار الثقافي لم يعد ترفاً، بل صناعة مربحة ومؤثرة!
وبهذا المجال الحيوي لدين ولله الحمد مقومات ضخمة تجعلنا في صدارة الدول القادرة على قيادة هذا التوجه، من ثراء المواقع الأثرية على سبيل المثال،في العلا والدرعية، إلى المهرجانات والفعاليات الكبرى مثل موسم الرياض، وما أحدثته هذه الأمثلة البسيطة، من حراك اقتصادي ضخم انعكس على قطاعات السياحة والضيافة والنقل والتجزئة، فأصبحت الثقافة في المملكة جزءاً لا يتجزأ من رؤية 2030، باعتبارها محوراً رئيساً لتنويع مصادر الدخل وتعزيز القوة الناعمة السعودية عالمياً.
لذلك يمثل "مؤتمر الاستثمار الثقافي" الذي سينعقد نهاية الشهر الحالي بمدينة الرياض، خطوة استراتيجية لاستمرارية التوجه الذي ترسمه وزارة الثقافة بقيادة وزيرها سمو الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان آل سعود، كون هذا المؤتمر سيجمع صناع القرار والمستثمرين والخبراء لمناقشة مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية، ويطرح فرصاً استثمارية واعدة في مجالات النشر، والفنون، والمتاحف، والتراث، والفعاليات، كما يشكّل منصة لتوقيع شراكات نوعية بين القطاعين العام والخاص، بما يضمن أن يتحول الطموح إلى مشاريع ملموسة تدعم الاقتصاد الوطني وتوفر آلاف الوظائف للسعوديين.
كما أن انعقاد المؤتمر بالعاصمة الرياض يعكس الاهتمام السعودي في تحويل الثقافة لصناعة اقتصادية موازية لبقية القطاعات، لقدرة الثقافة أن تكون رافداً مالياً ومصدراً للتنمية المستدامة، وأن تُقدَّم للعالم كنموذج سعودي يجمع بين الأصالة والابتكار!
إننا ومع تمنياتنا بنجاح مخرجات هذا المؤتمر، نؤمل كثيراً على جميع المستويات وخصوصاً الاقتصادية والاجتماعية بفوائد الاستثمار الثقافي كونه "اقتصاد المستقبل"، وخارطة الطريق المؤسسية لابراز جوانب بلادنا المضيئة، وبملامح مرحلة جديدة يكون فيها الإنسان السعودي هو المستفيد الأول، والهوية الوطنية هي العلامة الأبرز.