: آخر تحديث

العلمانية العربية بين اللحية والعمامة!

3
3
2

محمد بن عيسى الكنعان

تبلورت العلمانية كفكرة سياسية خلال عصور النهضة الأوروبية وتحديدًا في عصر التنوير (الأنوار)، حتى تم فطامها في مهد الثورة الفرنسية عام 1789م؛ حيث نجحت أوروبا في فصل الدين عن كل مناحي الحياة وبالذات السياسة، فـ(ما لله لله، وما لقيصر لقيصر).

ومع عدوان الحملة الفرنسية إلى مصر بقيادة نابليون بونابرت خلال الفترة (1798- 1801م) وفدت الفكرة العلمانية إلى العالم العربي، حتى أن عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ الكبير ألمح إلى ذلك وإن لم يصرح بشكل واضح في تأريخه لمصر، لكن إلياس بقطر وهو مثقف نصراني كان له السبق بكونه أول من استخدم مصطلح العلمانية في معجم (عربي - فرنسي) ألفه عام 1827م.

ونظرًا للتأثير المصري في العالم العربي فقد دخلت العلمانية في الحياة السياسية العربية بدعم من فلاسفة ومفكرين ومثقفين تربى أغلبهم على موائد الاستشراق، ورأوا في العلمانية الخلاص لحالة التخلف الحضاري التي يعيشها الوطن العربي بعد رحيل الاستعمار الغربي، فكانت النتيجة تبني هذه العلمانية كمنهج سياسي لتيارات وأحزاب وطنية، ومن ثم صارت حاكمة لأنظمة عربية، سواءً جمهورية أو عسكرية، مع التأكيد المستمر من قبل النخب والمفكرين والسياسيين عبر الوسائل الإعلامية، والمنابر الثقافية، والإصدارات الفكرية على مسألة رئيسة ومحورية في الحياة السياسة تتمثل بوجوب (فصل الدين عن الدولة) فصلًا تامًا. بل لم تقف المسألة عند هذا الحدّ؛ فخلال هذه المسيرة الطويلة للعلمانية العربية من الوفادة إلى السيادة، ترسخ مبدأ علماني خالص يكاد يكون مبدأً مقدسًا، وهو رفض كل أشكال التقارب بين الحالة الدينية بكل تجلياتها، ومظاهرها، ومدنيتها، وحتى شخصياتها، وبين الواقع السياسي بكل اعتباراته، ومؤسساته، وقوانينه، وتبعًا لذلك صار الرفض التام لفكرة - أو حتى محاولة - عمل رجل الدين بالسياسة، أو الممارسة الحزبية، أو أن يدخل مؤسسات الدولة ذات الطابع السياسي، أو أن تتسم الأحزاب بأي طابع ديني حتى لو كان في إطار الاسم وليس الفعل، مثل الحزب الإسلامي، رغم أن الغرب الذي أنتج العلمانية تجاوز هذه المسألة بوجود أحزاب سياسية بمسميات دينية مثل الحزب الديمقراطي المسيحي في ألمانيا أو الحزب الديمقراطي المسيحي في النرويج، وغيرها.

ناهيك عن أن الأحزاب اليمينية المتطرفة بالغرب صارت تستمد قيمها الاجتماعية من الدين. بل إن الرفض العلماني على مستوى اليساريين والليبراليين لأية مقاربة بين الحالة الدينية والفكرة العلمانية تطور إلى رفض البيعة الشرعية، التي تشكل ركيزة أساسية في الأنظمة الملكية العربية بحجة أن البيعة ذات بُعد ديني بالأساس، رغم أن الواقع العربي أثبت أن البيعة في الأعناق أصدق وأقوى وأمضى من الصوت في الأوراق، أي الأوراق الانتخابية.

الغريب أن العلمانيين العرب من يسار وليبراليين كانوا إلى عهدٍ قريب يرفضون أن يشتغل رجل الدين بالسياسة، لكنهم اليوم يتجاهلون عن قصد ما يحدث في سوريا! فلم نجدهم يتصدرون المنابر الإعلامية والمنصات الرقمية لرفض اشتغال شيوخ العقل الدرزي بالسياسة لدرجة تشكيل جبهة سياسية، ومجلس عسكري ودعوة لفيدرالية أو انفصال! وهو يذكرنا بموقف هذه العلمانية المتصالح مع حسن نصر الله - رجل الدين والسيد المعمم - الذي كان يشتغل بالسياسة ويتحرك وفقًا لتوجيهات الولي الفقيه. بينما لازالوا يطعنون برئاسة الرئيس أحمد الشرع المؤقتة ويرفضونها؛ لأنه جاء من خلفية إسلامية حتى وإن كان خطابه مدنيًا وطنيًا.

ما يجعلك تستغرب أن العلمانية لبست العمامة وأطلقت اللحية خلافًا لكل أعرافها في تحييد الدين عن السياسة، أو إذا لزم الأمر محاربته. ولك بعد كل هذا أن تفهم يقينًا ما هو المذهب الإسلامي والمكون الأكبر في أمتنا، الذي تحاربه العلمانية العربية وبالذات اليسارية وهي ملتحية وتلبس العمامة دون غيره من المذاهب والطوائف.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد