: آخر تحديث

ردُّ المَكيدهْ علَى مَانِعِ قراءةِ القَصيدهْ

3
3
2

لأَبِي الحَسَن التِّهَامِيّ (ت416هـ)، قصيدةٌ رائيةٌ فِي رِثَاءِ ابنِهِ، تُعَدُّ مِنْ أَشْهَرِ المَرَاثِي، وَأَجْمَلِ قَصَائِدِ الشِعْرِ العَرَبِيّ.

قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي: «وَفَيَاتُ الأَعْيَان»، عِنْدَمَا تَرْجَمَ لِأَبِي الحَسَنِ التِّهَامِي، الشَّاعِر:

«وَلَهُ مَرْثِيَةٌ فِي وَلَدِهِ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ صَغِيراً، وَهِيَ فِي غَايَةِ الحُسْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الإتْيَانِ بِهَا، إلَّا أنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: إنَّهَا مَحْدُودَةٌ، فَتَرَكْتُهَا، لَكِنْ مِنْ جُمْلَتِهَا بَيْتَانْ فِي الحُسَّادِ، وَمَعْنَاهُمَا غَرِيبٌ، فَأثْبَتَهُمَا»، ثُمَ أَوْرَدَ البَيْتَيْن...

وَكَلَامُ ابْنِ خَلِّكَان جَديرٌ بِالتَّأمُّلِ، وَلَفَتَنِي مِنْهُ الإِعْرَاضُ عَنِ الإِتْيَانِ بِالقَصِيدَةِ كَامِلَةٍ، مُتَعَلِّلًا بِقَوْلِ النَّاسِ: إِنَّهَا مَحْدُودَةٌ!

وقد أعياني البحث عن معنى كون القصيدة «محدودة»، فَشَرَّقْتُ وَغَرَّبْتُ فِي افْتِرَاضَاتِ لَا تَسْتَنِدُ إلَى عِلْمٍ، وَلَا تَغْرِفُ مِنْ مَعْرِفَةٍ. وَمَا لَا يَكُونُ العُلْمُ أَسَاسَه أَوِ المَعْرِفَةُ سَاسَهُ، فَالْجَهْلُ أَصْلُهُ وَفَصْلُهُ!

وَبَعدَ عَنَاءٍ وَقَعْتُ فِي: «الوَافِي بِالوَفَيَات»، عَلَى قَوْلِ خَلِيلِ بنِ أيبكَ الصَّفدِيّ، فِي تَرْجَمَةِ ابْنِ زَيْدُون:

«وَمِنْ شِعْرِهِ النُونِيَّة الْمَشْهُورَة، الَّتِي أَوَّلُهَا:

أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيلاً مِنْ تَدَانِينَا وَنَابَ عَنْ طِيبِ لُقْيَانَا تَجَافِينَا

وَاشْتَهَرَتْ، إِلَى أَنْ صَارَت مَحْدُودَةً، يُقَالُ: مَا حَفِظَهَا أحدٌ إِلَّا وَمَاتَ غَرِيبًا».

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المَعْنَى، فِي القَصِيدَةِ المَحْدُودَةِ، أنَّ مَنْ يَحْفَظُهَا أَوْ يُرَدّدُهَا، يُصَابُ بِمَا تَطَرَّقَتْ لَهُ القَصِيدَةُ من عِلَّةٍ أوْ دَاءٍ، بِحَسَبِ هَذِهِ النَّظَرِيَّة!

وكنتُ قرأتُ شَيئاً مُشَابِهاً لِمَا سَبَقَ، بِشَأنِ كِتَابِ أَبِي حَيَّانَ التَّوْحِيدِي: «أخلاقُ الوزيرين»، فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَرَأَ الكِتَابَ، أُصِيبَ بِكَذَا وَكَذَا!

وَهِيَ طَرِيقَةٌ لِلتَّنْفِيرِ مِنْ قِرَاءَةِ الكِتَابِ، رُبَّمَا تَعَاطُفاً مَعَ الصَّاحِب بنِ عَبَّاد!

وأعجَبُ كَيفَ تَنْطَلِي هَذِهِ الخُزَعْبَلَاتُ عَلَى عُلَمَاءَ وَأدَبَاءَ لَهُمْ وَزْنُهُمْ وَقِيمَتُهُمْ؟!

هَذهِ الأُطْرُوحَاتُ لَيستْ سِوَى أَسَاطِيرَ بَالِيَةٍ، لَا صِحَّةَ لَهَا، وَلَا يُقِرُّهَا عَقلٌ ولَا نَقْل، بلْ لَقَدْ جَاءَ الشَّرْعُ بِالنَّهْي عَنِ التَّطَيُّرِ وَالتَّشَاؤُمِ، وَالمُقْبِلِ مِنَ الأَحْدَاثِ غَيبٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الله، وَلَا عَلَاقَةَ لِلْأَحْدَاثِ المُقْبِلَةِ بِمَوْضُوعِ كِتَابٍ، وَلَا حَدِيثِ قَصِيدَة.

أَعْرَضَ ابْنُ خَلِّكَان، عن إيرادِ مَرْثِيَة التِّهَامِيِّ كَامِلَةً، رَغمَ إِعْجَابِهِ بِهَا، فَوَصَفَهَا بِأنَّهَا «في غَاية الحُسْنِ»، إِلَّا أَنَّهُ أوْرَدَ مِنهَا مُقْتَطَفَاتٍ، ورَكَزَّ مِنْهَا عَلَى بَيْتَينِ فِي الحُسَّاد، استَغرَبَ مَعنَاهُمَا...

قَالَ التِّهَامِيّ:

إِنِّي لَأَرْحَمُ حَاسِـدِيَّ لِحَــرِّ مَا

ضَمَّتْ صُدُورُهُمُ مِنَ الْأَوْغَـارِ

نَظَرُوا صَنِيعَ اللَّهِ بِي فَعُيُونُهُمْ

فِـي جَـنَّةٍ وَقُلُـوبُـهُـمْ فِـي نَارِ

والغريب أنَّ الشَّاعِرَ رُغم ما يُكابِدُ من حَسَدِ الحَاسِدِينَ، إِلَّا أَنَّهُ كشَفَ عَنْ رَحمتِهِ لِحُسَّادِهِ! فَكيفَ يَرجمُكَ الحَاسِدُ بِنيرَانِ تَمَنّي زَوَالِ مَا عِندَكَ مِنْ نِعْمَةٍ وَتُهْدِيهِمْ إِزَاءَ ذَلكَ رَحْمَتَكَ بِهِم؟!

وَيُبيّنُ التِّهَامِي أنَّ رَحْمَتَهُ مَرَدُّهَا مَا تَحْمِلُهُ صُدُورَ حُسَّادِه مِنْ الأَوْغَار!

الأَوْغَارُ: جَمْعُ وَغْرٌ، وَهُوَ: احْتِرَاقُ الْغَيْظِ، وَمِنْهُ قِيلَ: فِي صَدْرِهِ عليَّ وَغْرٌ، بِالتَّسْكِينِ، أَي ضِغْنٌ وَعَدَاوَةٌ وتَوَقُّدٌ مِنَ الْغَيْظِ، وَالْمَصْدَرُ بِالتَّحْرِيكِ. وَيُقَالُ: وَغِرَ صدرُه عَلَيْهِ، يَوْغَرُ وَغَرًا، ووَغَرَ يَغِرُ إِذا امتلأَ غَيْظًا وَحِقْدًا، وَقِيلَ: هُوَ أَن يَحْتَرِقَ مِنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ. * «لسان العرب».

بعدَ بَيانِ مَعْنَى الأَوْغَارِ، يُمْكِنُنَا تَفَهُّم شيءٍ منْ دَوَافِعِ تِلكَ الرَّحْمَة.

فِي البَيتِ الثَّانِي يَمْضِي الشَّاعِرُ فِي بَيَانِ دَوَافِعِ رَحْمَتِهِ، ذَلكَ أَنَّ حَاسِدِيهِ، عِندمَا تأمَّلُوا قَضَاءَ اللهِ فِيهِ بِنُزُولِ مُصِيبَةِ فَقْدِ ابنِهِ، فَأوْقَعَهُمْ تَأمُّلُهُمْ فِي أَحَاسيسَ مُتَناقِضَةٍ مُتَضَادَّةٍ، فَعُيُونُهُمْ بِمَا يَرَوْنَ مِنْ فَاجِعَتِهِ مِنْ فَرَحِهَا فِي جَنَّة سَعَادةٍ، وفي الوقتِ ذاتِه فإنَّ قلوبَهمْ تَغلِي كَالمَرَاجِلِ بِمفعولِ الحَسَدِ الّذِي يَقذفُ بنيرانٍ متقدةٍ ملتهبةٍ في حَشَى الحَاسِدِ، فَكَانَ هَذَا التَّضَاد عندهمْ مَدعَاةَ رَحمَةِ الشَّاعِرِ لِحَاسِدِيهِ عَلَى مَا يُقَاسُونَ مِنِ اضْطِرَاب.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد