في ذاكرة الشعوب وخرائط مسيرتها، أسماء وسنوات، بل قرون لا ترحل ولا يخفيها تزاحم الأحداث. هناك أسماء ملوك ورؤساء ورؤساء حكومات يبقون في عقول شعوبهم، وفي دنيا التاريخ. الرئيس المصري الراحل أنور السادات رجل وُلد في زمن مصري وعربي، بل وعالمي استثنائي بكل ما فيه. في مذكراته التي أعطاها عنوان «البحث عن الذات» عرض المحطات التأسيسية لشخصيته. منذ مولده في قرية ميت أبو الكوم على ضفاف النيل، إلى توليه رئاسة جمهورية مصر العربية. كانت مصر تحت هيمنة بريطانيا، وتتحكم في قرارها، وقواتها العسكرية تمتد فوق الأرض المصرية كلها. على عرش البلاد ملك لا يمتلك من الأمر إلا ما كان رمزياً. ذلك الطفل الأسمر ترعرع على ضفاف نهر النيل. رشف منه تاريخ مصر وواقعها وأحلامها. كتب السادات قصة حياته بلغة مباشرة بسيطة. تحدث فيها عن شخصيات وطنية وعالمية، انشدَّ إليها مبكراً وتركت أثراً في تكوين شخصيته. شاب مصري أعدمه البريطانيون بعد حادثة دنشواي اسمه زهران، سكن في عقل السادات ووجدانه، وسيظل الحادي له طيلة مسيرة حياته. من قرية ميت أبو الكوم إلى مدينة القاهرة، حيث لوحة الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تعلوها ألوانٌ زمنٍ به من الحركة الصاخبة والصمت الذي يموج في الصدور. شاب ينمو في بستان الوطن، كما تكبر الأشجار في حقل لا ترحمه الرياح. حصل على الثانوية العامة وبدأت رحلته الطويلة التي تزايدت أثقالها مع كل خطوة إلى الأمام. تمكن من الالتحاق بالكلية الحربية بعد محاولات عدّة بين زحام الواسطة والهيمنة البريطانية على القرارين العسكري والسياسي. بعد تخرجه تنقل بين أكثر من معسكر في مناطق مختلفة من البلاد. حيثما حلَّ حمل معه العداء الشديد للمتحكم المستعمر البريطاني. صدامه الأول معه بدأ باشتراكه في اغتيال الوزير أمين عثمان، الذي لم يكن يخفي ولاءه المطلق لبريطانيا، ودفع السادات ثمن ذلك في السجن. أثناء الحرب العالمية الثانية، تقدمت القوات الألمانية والإيطالية في الأراضي المصرية من شرق ليبيا. كانت هزيمة القوات البريطانية الأمل الكبير الذي تحرك في وجدان كل المصريين لتحقيق أملهم في الحرية من الاستعمار البريطاني، ولو كانت على يدي الألمان والإيطاليين. رتَّب الضابط أنور السادات محاولة لتهريب الضابط المصري الوطني البارز عزيز المصري إلى الصحراء الغربية للتواصل مع القيادة الألمانية. فشلت المحاولة بسقوط الطائرة التي كانت تقل عزيز المصري. إصرار السادات على التعاون مع الألمان لم يتوقف ودخل في مغامرة أخرى أشد خطورة. جاسوسان ألمانيان في القاهرة، يقومان بتزويد قيادتهما بالأسرار العسكرية البريطانية. تعطل جهاز إرسالهما، تواصلا عبر وسيط مع السادات؛ فهو يعمل بسلاح المخابرة العسكري، ويمتلك الخبرة التقنية لإصلاح الجهاز. اُكتُشف ما قام به من المخابرات المصرية والبريطانية. وزُجَّ به في السجن، وطُرد من الجيش. تمكن من الهروب واندفع في مغامرة أخرى. تنقل متخفياً في مناطق مختلفة من البلاد باسم الحاج محمد، وعمل حمالاً في الريف المصري. تمكن الهارب المغامر من التعرف إلى شخصية لها علاقة بالقصر الملكي، ساعده على العودة إلى الجيش، والالتحاق بالحرس الملكي.
تحدث الرئيس السادات عن جهده المتواصل لتأسيس تنظيم عسكري يهدف إلى الإطاحة بالنظام الملكي والخلاص من الاستعمار البريطاني، قبل أن يشرع جمال عبد الناصر في تأسيس حركة الضباط الأحرار. زملاؤه في قيادة حركة الضباط الأحرار، لم يوافقوا أنور السادات على ما ذكره، وأكدوا ذلك في المذكرات التي نشرها بعضهم.
رافقتُ الرئيس الراحل أنور السادات، في رحلته الطويلة التي قرأتُها في مذكراته، التي رسم فيها مسار خطوط رحلته المركبة بكل ما فيها من مغامرات وجبال وحفر، في كتابه «البحث عن الذات» نستطيع أن نقول إنه كان في مسيرته كلها يبحث عن مصر المتحررة من الاستعمار البريطاني. هل كان الفتى زهران الذي أعدمه البريطانيون في قضية دنشواي هو الوقود الروحاني الذي ظلَّ يحرك أنور السادات في كل رحلة إصراره الطويلة من دون أن ينفد؟ حلقة سحرية في سلسلة حياة السادات السياسية، منذ أن صار عضواً في مجلس قيادة الثورة، تكشف لنا الدهاء السياسي الرهيب الذي نبت في عقله المغامر الجسور. فهو لم يتولَّ حقائب وزارية مهمة، ولم يكن يوماً من المرشحين لأن يحل مكان الزعيم الكبير جمال عبد الناصر. تولى الرئاسة بعد رحيل عبد الناصر، وبدأ يشيّد بدهاء هادئ مملكة زمانه. بضربة واحدة أزاح جميع مراكز القوى المعارضة له. بدأ يرتب قوته العسكرية لخوض معركته مع إسرائيل، وأعاد هيكلة العلاقة الاستراتيجية مع موسكو. خاض معركة خداع طويلة مع إسرائيل حتى اعتقدت أنه لن يخوض الحرب. اقتحم خط بارليف الإسرائيلي الحصين، واقتحم أسوار معركته السياسية المغامرة الطويلة. في الختام حقق حلمه الكبير، تحرير كل أرض مصر بدهاء وجسارة الواثق.
رحلتُ مع أنور السادات في حياته الطويلة المركبة لأقول، في خضم الانكسارات والتشظي الذي تتخبط فيه منطقتنا اليوم، وقد اضطربت فيها التوازنات الإقليمية والدولية، أليس من المفيد أن نقرأ بعقل سياسي، رحلة هذا الرجل بكل ما فيها؟ قد يكون فيها ضوء يُعين على رؤية ما وراء الأكمة من قادم مرعب.